عولمة مكافحة الأمراض غير المعدية

جورج وايز أستاذ التاريخ الطبي في جامعة ماكغيل
جورج وايز أستاذ التاريخ الطبي في جامعة ماكغيل

جورج وايز
أستاذ التاريخ الطبي في جامعة ماكغيل

ركزت منظمات الصحة والمبادرات على مستوى العالم، وبشكل خاص منظمة الصحة العالمية، على نحو تقليدي على الأمراض المعدية، مثل الملاريا والجدري. لكن كان هناك دوما حيز ضيق للصحة العالمية فيما يتعلق باستهداف الأمراض المزمنة غير المعدية في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. ومع إحراز هذه الدول تقدما فيما يتعلق بالتنمية، فإن الضغط لتوسيع هذا الحيز يشهد تزايدا كبيرا.اضافة اعلان
بدأت منظمة الصحة العالمية الاهتمام بالأمراض غير المعدية في سبعينيات القرن المنصرم، عندما دشنت أول برامجها لخفض أمراض القلب والأوعية الدموية. وبحلول العام 1977، أنشأت المنظمة قسما للأمراض غير المعدية. وفي العام 1985، صادقت جمعية الصحة العالمية على مشروع القرار الذي يطالب الدول الأعضاء بتطوير استراتيجيات جديدة لمواجهة مشاكل الأمراض غير المعدية.
في هذا الإطار، برز برنامجان: أحدهما يخدم أوروبا الغربية، وآخر أطلق عليه اسم "الصحة البينية" (Inter-Health) وركز على مجموعة مختلطة من الدول، بدءا من تشيلي وتنزانيا إلى فنلندا والولايات المتحدة. ويتمثل هدف "الصحة البينية" في تنسيق مجموعة من المشاريع المحلية التجريبية من أجل تطوير نموذج برنامج مرن يتم تطبيقه على الدول التي تمر بمراحل تنمية مختلفة.
كانت هذه خطوة في الاتجاه الصحيح. لكن، ولسنوات عديدة، ظلت هذه الخطوة هي الخطوة الوحيدة تقريبا التي اتخذتها منظمة الصحة العالمية فيما يتعلق بالأمراض غير المعدية في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. ثم، في العام 1993، حدد تقرير التنمية العالمية ودراسة العبء العالمي للأمراض حجم مشكلة الأمراض غير المعدية في الدول ذات الدخل المنخفض. ومثّل ذلك اختراقا مدعما بالأدلة بالنسبة للعمل النشط المتعلق بالأمراض غير المعدية.
وقد ردت منظمة الصحة العالمية على هذا الاختراق -والنقد الذي تسببت في إثارته- بإصلاحات ضخمة تحت قيادة غرو هارلين برونتلاند التي عملت مديرا عاما لمنظمة الصحة العالمية في الفترة من عام 1997 إلى 2002. وقد عملت المنظمة على زيادة حشد التأييد ووسعت برنامجها للأمراض غير المعدية عن طريق تزعم ائتلاف متنام لحشد التأييد لهذا الموضوع، فوضعت منظمة الصحة العالمية نفسها موضع الزعامة في مكافحة الأمراض غير المعدية. وتمثلت ذروة نجاحها في هذا الجانب عند عقد اجتماع الأمم المتحدة الخاص بالأمراض غير المعدية في العام 2011.
لكن جميع هذه الجهود لم تسفر سوى عن نتائج مختلطة. فبالرغم من زيادة المطبوعات المرتبطة بالأمراض غير المعدية، فإن التمويل كان بالكاد يجاري المتطلبات الأساسية، حيث تراوح ما بين 1 إلى 3 في المئة من إجمالي مساعدات التنمية الصحية. ونتيجة لذلك، يبدو أن معظم الحكومات في الأقاليم ذات الدخل المنخفض أحرزت تقدما ضعيفا نسبيا في مواجهة الأمراض غير المعدية، إذ كانت التقييمات الأخيرة مخيبة للآمال.
في المقابل، سلطت العديد من التقارير الضوء على التهديد الذي تمثله الأمراض غير المعدية في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. ففي حين يوجد إجماع عام على الحاجة إلى إيلاء المزيد من الاهتمام -وتقديم المزيد من الموارد- لمكافحة الأمراض غير المعدية، إلا أن الإجماع يتقلص عندما تصل الأمور إلى كيفية مكافحة هذه الأمراض وتوزيع التمويل. فالبعض يتبنى تعديل السلوك الفردي، في حين يؤكد آخرون على أهمية التدخلات التنظيمية، والقضاء على الفقر ودعم المساواة الاجتماعية لمكافحة الأمراض. كما ما يزال هناك آخرون يطالبون بالتعاون مع الشركات الخاصة، بما في ذلك مجموعة الضغط الدوائية "بيغ فارما".
وعلى الرغم من الاختلافات كافة، إلا أن الجميع يتفق على نقطة حاسمة واحدة: التمويل. وقد يلقي البعض اللوم على منظمة الصحة العالمية، بسبب بيروقراطيتها المفرطة والتسييس الذي لا مفر منه أحيانا. إلا أن السبب الأساس هو الميزانية المحدودة لمنظمة الصحة العالمية والتي تركز فيها على الأمراض المعدية.
والحقيقة أن الأمراض المعدية تحمل تأثيرات ومخاطر فورية، وتهدد الحياة، وقادرة على الانتشار على نطاق واسع بفضل وسائل النقل الحديثة، ما يستدعي مكافحتها بصورة مباشرة، في حين أن الأمراض غير المعدية تتطور ببطء وتؤثر بصورة رئيسة على البالغين الأكبر سنا، ويصعب معالجتها بأسلوب تكنولوجي سريع.
على الرغم من ذلك، فقد تتغير التوجهات تماما لناحية مكافحة الأمراض غير المعدية؛ إذ يستمر التجاوب الإيجابي مع محاولات حشد التأييد لهذا الموضوع. وقد تم إنشاء تحالف الأمراض غير المعدية لشرق أفريقيا -وهو عبارة عن ائتلاف فضفاض لمنظمات المجتمع المدني-  لمعالجة التحديات في هذه المنطقة. ومع زيادة الاهتمام بالأمراض غير المعدية، فإنه من المرجح أن تبدأ الموارد بالتدفق وإن كان ببطء.
بالطبع، في حال تزايد التمويل، ستنشأ خلافات شديدة حول كيفية استخدام هذه الموارد. إلا أنه بعد ستين عاما من مواجهة الأمراض غير المعدية في الدول المتقدمة، أصبح من الواضح أن التدخلات الحادة عادة ما تجتذب المزيد من الدعم. وعلى أي حال، يأمل المرء أن هناك دروسا قد تم تعلمها من خبرتنا التي تمتد لعقود في مكافحة الأمراض غير المعدية، وأن هذه الدروس يمكن تطبيقها في الأوضاع الأكثر تحديا والأكثر فقرا من حيث الموارد في العالم النامي.