غادروا للوطن بعد 1993

عقب الحديث عن التوصل لاتفاقية أوسلو (التي حلت ذكراها هذا الأسبوع) ، قرع باب بيتي في عمان، ولا أتذكر متى كان التاريخ بالضبط، في العام 1993، ولكن البرد كان قد بدأ، وكنت أعيش مع والِدَيّ وعائلتي، لأفاجأ بصديق من الجامعة، كان قد مر بتجربة اعتقال لمدة عام لأنه كان يخطط لعملية فدائية، ومعه صديق عرفني عليه، يتلفع كوفية، وكان لديه قبل إبعاده تجربة اعتقال مدة 15 عاماً في السجون الاسرائيلية. دخلوا غرفتي التي هي مكتبتي، وأخرجوا أوراقاً مطبوعة على الآلة الكاتبة التقليدية، فيها نص اتفاقية "إعلان المبادئ"، وعناوين عشرات القادة الفلسطينيين في تونس، وكانوا يريدون، بما أن لدي جهاز حاسوب وطابعة، وكان نادراً امتلاك الأفراد لهما حينها، أن أساعدهما بطباعة بيان ضد الاتفاق، وارسال رسائل بالبريد لهؤلاء القادة. 

اضافة اعلان

ومضت ساعات ونحن نقرأ ونحلل الاتفاق، ونكتب، بخط اليد، وبعد الانتهاء، كانت النتيجة أن معايير نجاح وفشل الاتفاق في تحقيق الأهداف الفلسطينية، هو كيف ستدار المرحلة ومن سيديرها، ولم يكتبا بيانا، ولم أطبع، ولم يرسلا شيئا، فالحيرة والترقب كانت نتيجة القراءة. 

في الأسابيع والأشهر التالية، كان النقاش بين الأصدقاء والشباب الذي دخل الجامعة حوالي اندلاع مرحلة الانتفاضة الأولى، ما العمل؟. أحدهم، قال حتى لو كانت العودة لأريحا، فسأسير بعدها مسافة "حذاء بعد حذاء" لأصل بحر فلسطين. وأخرى، قالت لن أعود، أنا من يافا وبالنسبة لي لا فرق بين أي مدينة خارج فلسطين، ويافا، وحل الدولتين لا يعنيني. 

بدأت العودات "المفاجئة"، أحدهم مهندس ولدى عائلته شركة انشاءات، اتصل وقال إنه يريد وداعا سريعا، ذهبنا لمقهى، وجاء في شاحنة صغيرة، قال إنّ شراءها للعمل تم قبل ساعات من إبلاغه بتضمين اسمه مع العائدين، وكان يحمل ملابس شبه عسكرية اشتراها بنفسه. آخر، وهو مهندس أيضاً، اتصل مبكراً صبيحة يوم جمعة، يخبرني، سأتوجه للجسر بعد قليل؛ حصلت على تصريح زيارة (ليس ضمن القوات)، وأضاف "لن أعود" (من هناك)، وسألته ولماذا لم تخبرني لأودعك؟ قال، وصل التصريح أمس، العاشرة ليلا. (انتظر ساعات فقط حتى فتحت الحدود). وآخر، من مخيمات الشتات، كان غاضباً يذهب من مكان لآخر، يقول إن أناسا من المخيم أدرجوا ضمن العائدين لا علاقة لهم بالعمل الوطني، وأنه أحق، واستمر، حتى عاد. 

في السنوات التالية التقيتُ بعضهم، أحدهم دافع عن الاتفاقيات باستماتة، "حتى لو احتاج الأمر وقف فكرة الثورة" لأنّ هناك "طريقة جديدة" لتحقيق الأهداف. أخرى قالت إنها عندما حدثت انتفاضة النفق (العام 1996)، لم تطق رؤية الجيش الإسرائيلي يطلق الرصاص، وأمسكت مسدسا لديها بحكم عملها، وتمترست مع الشبان. وصديقي المهندس الذي نزل بتصريح أخبرني، بعد عامين أنه يعيش في المنطقة (أ)، التي كانت ممنوعة على الإسرائيليين بموجب الاتفاق، لا يخرج منها، كي لا يلقى القبض عليه، ويُبعد، وكان يعمل في جهاز مدني للسلطة الناشئة، سعيد بدوره، وبأنّه متطوع في نادي قريتهم لتعليم الرياضيات والفيزياء للطلبة. وآخر، هو الذي جاءني في تلك الليلة لطباعة البيان، حدثنا عن أزمة السكن وأنه وزوجته العروس، لم يجدا لأشهر سوى غرفة وحمامها مشترك مع الجيران، في قرية، ولكنهما سعيدان. وصديقي من المخيم، كان ساخطا أنه لا يعمل بتخصصه، ويتحدث عن سوء الإدارة.

قصص الشباب هؤلاء، عرفتها بحكم العلاقة الشخصية، ولكن في الإعلام ومن أصدقاء آخرين، عرفنا قصصا، مثل الشهداء جهاد العمارين ومروان زلوم اللذين أسسا بعد اندلاع انتفاضة الأقصى، "كتائب شهداء الأقصى"، وميسرة أبو حمدية، الشهيد في الأسر، الذي عمل مع كل من "فتح" و"حماس"ـ تماماً كما أن هناك قصص فوضى وسوء إدارة، كفاها الإعلام تغطية. وهناك قصص لا مجال لها هنا، كقصص رجال الأعمال الذين ذهبوا للاستثمار.

كان الاتفاق مليئا بالثغرات، وعملية تنفيذه فيها أخطاء، والجانب الإسرائيلي لم يلتزم به، ولكن بين الأسطر كانت هناك قصص إخلاص وشغف بالعودة والبناء والتحرير والاستقلال، التقت مع الموجودين هناك أصلا، وتؤكد هذه التفاصيل أنّ مسيرة ربع القرن الفائتة تحتاج لوقفات للفهم والتحليل، بعيداً عن المحتوى السياسي المجرد؛ لدراسة المحتوى الاجتماعي والاقتصادي والنفسي لمرحلة ما بعد أوسلو، بما فيها من فشل، ونضالات، في آن.