غارة كاشفة ومحرجة

بفيض من مشاعر الغطرسة وروح التشفّي، أجاب أحد الوزراء الإسرائيليين عن سؤال من اغتال الأسير المحرر سمير القنطار في جنوب دمشق قائلاً: فعلتها المخابرات الفنلندية، في إشارة استهزاء متهكمة بنحو 170 جندياً فنلندياً يعملون في إطار القوات الدولية المرابطة في الجولان المحتل منذ أربعين سنة.اضافة اعلان
وبشيء من الحرج، وتجنباً لأخذ موقف يبني على الشيء مقتضاه، رد وزير الإعلام السوري على سؤال الاغتيال ذاته قائلاً، وهو يتوارى خجلا؛ إنه عمل جبان، نفذته الجماعات الإرهابية. أي إن الأمر لا يخص إسرائيل، وإنما يقع في سياق الأعمال الروتينية، الجارية منذ نحو خمس سنوات دامية.
غير أن شقيق سمير القنطار، الذي خشي التستر على عملية الاغتيال طويلا، بادر إلى نشر الخبر في صفحته على "فيسبوك"، مبدداً بذلك الصمت الذي ران لنحو عشر ساعات متواصلة على مواقف الأطراف المخاطبة بهذا العمل الكاشف والمحرج معا، من دون أن يشير إلى مسؤولية إسرائيل عن الجريمة.
بعد ذلك أعلن حزب الله بلا مواربات، في ضحى اليوم التالي، أن طائرتين إسرائيليتين اخترقتا الأجواء السورية، ونفذتا هذه العملية التي راح ضحيتها القنطار وعدد من المواطنين السوريين، فيما لحق به إعلام النظام، مقللا من أهمية الضربة بقوله؛ إنها نفذت من فوق بحيرة طبريا، أي إن الأجواء بقيت مهابة والسيادة ظلت مصانة.
وهكذا، لم يمض كثير من الوقت حتى كان خبر الاغتيال يتصدر وسائل الإعلام المختلفة، وذلك على العكس من سوابق أخرى مماثلة، تكتمت عليها دمشق بشدة. إذ تشير مصادر المعلومات المتطابقة إلى نحو خمس عشرة غارة إسرائيلية وقعت العام 2015، منها ست غارات بعد التدخل الروسي، في أطراف دمشق والقلمون الغربي، استهدفت مقرات عسكرية سورية مهمة.
ويعتبر التكتم سياسة رسمية معتمدة، اتبعتها دمشق من دون نجاح يذكر، منذ عملية تدمير المفاعل النووي السوري في دير الزور العام 2007، حين قامت إسرائيل بقصف الموقع، فيما ظل هذا العدوان المحرج بعيداً عن الإعلام لنحو أربعة أيام، إلى أن سرب إيهود أولمرت الخبر للصحافة الأميركية، ثم توسع الإعلام العبري، لاحقا، في نشره اعتماداً على تلك المصادر الأجنبية.
ولعل ما أثار الحرج، وفاقم حالة الذهول هذه المرة، بصورة أشد من ذي قبل، أن اختراق الأجواء السورية حدث في ظل سيطرة روسية على هذه الأجواء المستباحة في الشمال والشرق، فيما هي محمية في وسط البلاد وفي جنوبها، بفضل منظومة الصواريخ الروسية المضادة "S400" ذات المدى الذي يشمل كامل الأجواء الإسرائيلية، ناهيك عن الأجواء التركية.
وعليه، فقد بدت خيبة الأمل الممزوجة بالصدمة، كبيرة وصاعقة لدى إعلام محور الممانعة، الذي بالغ كثيراً، كعادته، في تعظيم أهمية التغطية الروسية الجوية، وأسرف بشدة في تعليق الرهانات على هذا المتغير الاستراتيجي. وهي صدمة تجلت في تلك المظاهرة الطيارة الصغيرة التي خرجت في صباحات دمشق غداة عملية الاغتيال، مرددة: أين هي الصواريخ الروسية؟
وأحسب أن انتهاك الأجواء السورية، ومقارفة إسرائيل لهذا العمل الاستفزازي تحت الأبصار الروسية التي ترى كامل أجواء شرق المتوسط بدقة، سوف يفتح أسئلة كثيرة لدى سائر الجهات المعنية، التي تجد نفسها الآن مطالبة بمراجعة عاجلة لتلك الافتراضات والتمنيات والسيناريوهات المترتبة على حدوث هذا الخرق العميق، في ظل التنسيق المعلن بين إسرائيل وروسيا.
إذ من المرجح أن ينصب الجزء الأكبر من لوم حلف الممانعة بعد اليوم، وربما توجيه تهم التواطؤ سراً وعلناً، إلى الحليف الروسي المعول عليه بشدة لقلب الطاولة على رؤوس أرباب "المؤامرة الكونية"، خصوصاً أن الغارة على دمشق ترافقت مع أخرى على أحد أهم ألوية الجيش السوري في الجولان، من دون أن تفتح موسكو فمها بكلمة تليق بسمعة العسكرية الروسية.
لقد توقعت إسرائيل بعد الغارة على مفاعل دير الزور، أن ترد دمشق بضربة صاروخية على تل ابيب، حيث كان النظام السوري بكامل أبهته العسكرية. أما الآن، فإن إسرائيل تبدو مطمئنة إلى أن النظام المنهك، ناهيك عن حزب الله المستغرق في الحرب ضد الثورة السورية، غير قادرين على الانتقام الموجع لرد الاعتبار، إلا بعملية جانبية محدودة لحفظ ماء الوجه فقط.