غانتس وإسرائيل والسؤال الإستراتيجي

كان يبدو أن غانتس هو المرشح المنطقي لتشكيل الحكومة الإسرائيلية بعد الانتخابات النيابية الاخيرة التي جرت في 17 أيلول الماضي، عندما ذهب الإسرائيليون مرة أخرى الى الانتخابات بعدما أظهرت نتائج الانتخابات التي اجريت في نيسان الماضي أنها لا تساعد في تشكيل حكومة تحظى بأغلبية نيابية، وكان رئيس دولة إسرائيل رؤوفين ريفلين قد كلف نتنياهو أولا بتشكيل الحكومة والذي أعلن انسحابه من المهمة بعدما فشل في جمع أغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة.اضافة اعلان
ربما يكون تقديم نتنياهو يعطي غانتس فرصة أفضل؛ ذلك أنه سيأتي بعد فشل نتنياهو؛ الأمر الذي سيعطيه مرونة أو مبررات في التحالف مع القائمة المشتركة (النواب الفلسطينيون) أو اليمين بقيادة ليبرمان، لكن يظل احتمال فشل غانتس قائما، وفي هذه الحالة سيمنح رئيس الدولة للكنيست تفويضا لتشكيل الحكومة، وإذا لم ينجح فسوف تجري انتخابات جديدة وللمرة الثالثة في منتصف شهر آذار (مارس) 2020
لكن إذا كان العقل السياسي الإسرائيلي يفكر في مستقبل يحمل مزيدا من التعايش والعلاقات مع العرب ودورا إقليميا في المنطقة فإن المشاركة العربية الفلسطينية في الحكومة ربما تعطي غانتس فرصة لمثل هذا الدور كما فعل رابين من قبل في العام 1992.
إن الانتخابات العامة في تكرارها تصلح مؤشرا إلى التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها، وتفكر خاصة الاتجاهات المحافظة في مقاومتها، لكن طبقات جديدة تتشكل دائما، وتجد في التحولات فرصة للتغيير، هكذا يمكن النظر على سبيل المثال إلى الانتخابات التونسية وقبلها الفرنسية، والتي تعكس بوضوح التهديد الذي يواجه الطبقات والأيديولوجيات والاتجاهات السياسية التي تشكلت حول الدولة الحديثة في طبيعتها المركزية، وبطبيعة الحال فإن الشبكية السائدة أو التي تحلّ على العالم تلقي بظلالها على الموارد والسياسة، وتمتد أيضا إلى الفلسفة والاجتماع والثقافة.
وفي ملاحظة الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة بالمنظور نفسه يبدو مرجحا أن اليمين والأصولية يواجهان الانحسار وربما الفناء، ذلك أن صعودهما لم يكن في السياق الطبيعي للأمم والتحولات، لكنهما يعبران عن أزمة الليبرالية في مواجهة العولمة والشبكية التي عصفت بكل تراث الأمم السياسي والاقتصادي، بل وبمؤسساتها التنظيمية التي أدارت بها الشعوب والدول والعلاقات الدولية، وفي حالة الخوف والارتباك التي اجتاحت العالم منذ أواخر الثمانينيات كان متوقعا أو طبيعيا أن تحتمي الأمم بهوياتها وتاريخها، أو تبحث عن أفكار وأوعية جديدة للعمل والتفكير، ولما كان التاريخ مجربا وقادرا على الدوام أن يمنح الأمم ولو شعوريا مظلة للاحتماء والوجود العميق ومواجهة الفشل فقد كان الخيار اليميني والأصولي حاضرا، وفي المقابل فإن الحلول والأفكار الجديدة تظل مغامرة مجهولة المسار والعواقب.
هكذا أيضا فإن أزمة اليمين هي أزمة الوسط واليسار؛ نتنياهو يعكس على نحو ما أزمة غانتس، أو هو الوجه الآخر لأزمته، فاليمين سواء كان التيار المحافظ الذي تعود الوسط الليبرالي على التعايش معه أو الأصولية المناقضة لليبرالية من داخلها وبأدواتها؛ يمثل أزمة الوسط الليبرالي حين يعجز عن التعبير عن قيم الطبقة الوسطى المنتجة له، أو حين ينتج الوسط نفسه طبقة جديدة لا تعود مصالحها متفقة مع الطبقة الوسطى والليبرالية بطبيعة الحال، فيتحول الدواء إلى داء، ويكون الحلّ مشكلة! وقد تبدو الأزمة في تكرارها وتعاقبها وكأنها حتمية تاريخية، لكن العمليات السياسية والاجتماعية أنشأت فلسفة وقيما تحمي هذه المنظومة من خلال المراوحة بين الليبرالية والمحافظين واليسار الديمقراطي والاجتماعي، ففي حين كانت الليبرالية تنشئ أرستقراطيتها المحافظة فإن الديمقراطية كانت تدفع من خلال اليسار إلى تجديد الطبقة الوسطى وكبح المحافظين، لكنها لعبة تواجه النهاية، إذ لم يعد اليسار قادرا على تزويد الليبرالية بطاقة جديدة ولم يعد ثمة فرصة واقعية لتجديد الليبرالية أو اليمين المحافظ، إنه عالم جديد يحاول غانتس الجديد هو أيضا على السياسة أن يتعامل معه ويديره، والعالم يتفرج كما لو يراقب تجربة تجري في المختبر.