غداة القبض على باراك أوباما

كان في استطاعة الرئيس الأميركي باراك أوباما، تجاهل التقارير الفرنسية حول شبهة تورط نظام بشار الأسد في استخدام أسلحة كيماوية؛ وكان بمقدوره أيضاً التغاضي عن معلومات مصادر الاستخبارات البريطانية التي أكدت أنها تمتلك "أدلة صلبة" على استخدام تلك الأسلحة المحرمة دولياً؛ بل وربما كان من الممكن للرئيس الحاصل على جائزة نوبل للسلام أن يتجادل مع الوكالات الأمنية الأميركية حول مدى تجاوز الأسد للخط الأحمر الذي وضعه أوباما بنفسه.اضافة اعلان
غير أنه عندما دخلت إسرائيل على الخط، وأكدت أنها واثقة من خروج نظام الأسد على قواعد اللعبة، والتي تسمح له باستخدام كل الأسلحة المتاحة ضد شعبه عدا لجوئه إلى أسلحة الدمار الشامل، فإنه لم يعد في وسع سيد البيت الأبيض تجاهل الأمر على النحو الذي غض فيه البصر عن تقارير أهم حلفائه في اوروبا، ومن ثم التشكيك في صحة المصدر الاستخباري لحليفه الاستراتيجي الموثوق في هذه المنطقة.
لقد ظل الرئيس الأميركي المتردد بطبعه، مبالغاً في حذره المفرط حيال كل ما قد يعيد السابقة العراقية إلى الذاكرة، ومتحسباً بشدة إزاء كل ما قد يشكل توريطاً للدولة العظمى الوحيدة في مستنقع الشرق الأوسط. وهو الأمر الذي فاقم من حدة الأزمة السورية، وظل ينقلها من طور عنيف إلى طور أكثر عنفاً، تحت سمع وبصر الزعامة الأميركية للعالم، التي تخلت طواعية عن دورها، ولم تعد تقيم وزناً لمُثلها العليا وقيمها الديمقراطية.
وهكذا، فقد جاء دخول إسرائيل في حمأة السجال المحتدم حول ما إذا كان الأسد قد فعلها على نطاق محدود، لمرتين أو أكثر، بمثابة إحراج شديد للرئيس الذي دق بقبضته على الطاولة، وكرر تحذيراته العلنية مراراً من مغبة استعمال السلاح الكيماوي، حتى لا نقول إن هذا الدخول جاء اختباراً لصدقية أوباما في مسألة أخرى أكثر أهمية من الأزمة السورية التي لا تهدد اميركا وأسرائيل، ما دام أنها تدور داخل تلك الرقعة الجغرافية.
لم يكن التحاق إسرائيل بجوقة الاستخبارات الغربية، وقولها إن الأسد استخدم سلاحاً كيماوياً قاتلاً، خدمة مجانية لعيون السوريين المذبوحين بكل أصناف الأسلحة التقليدية، وإنما لتحقيق غايات إسرائيلية محضة، يقع في القلب منها امتحان مدى جدية الالتزامات التي قطعها الرئيس أوباما لنتنياهو بمنع إيران من امتلاك قنبلة نووية، ناهيك عن قطع دابر هذا السلاح الذي يسمى بقنبلة الفقراء النووية، كمعادل للترسانة الذرية الإسرائيلية.
على هذه الخلفية، تقدمت إسرائيل للإدلاء بدلوها في البئر، وبدت كمن يلقي القبض على الرئيس الأميركي بتهمة موصوفة، قائلة له بملء فمها: أنت من رسمت الخط الأحمر بنفسك، وحذرت الأسد مراراً من الخروج عن قواعد اللعبة، وها نحن نأتيك بالخبر اليقين، ولدينا الأدلة التي لا يرقى إليها الشك، فماذا أنت فاعل؟ وكيف سنتقبل دعوتك لنا بكبح جماح أنفسنا ضد إيران النووية، وننام على حرير تعهداتك الفارغة، إذا ما تغاضيت عن فعلة الأسد، وتجاهلت هذه السابقة التي ستأخذ منها الجمهورية الإسلامية كل العظات الثمينة؟
وعليه، فإنه يمكن اعتبار الدخول الإسرائيلي على حلبة الجدال الاستخباري الخاص باستخدام الأسد لأسلحته الكيماوية، على أنه استدراج للولايات المتحدة للدخول، بدورها، على خط الأزمة السورية، بصورة عملية يمكن معها الوثوق بكلمة الرئيس الأميركي في كل ما يخص جدول الأعمال الإسرائيلي، وفي المقدمة منه التخلص من هواجس بناء إيران لقدرة نووية قد تشكل تهديداً وجودياً للدولة العبرية.
ومع ذلك كله، فإن من غير الواقعي التنبؤ بحدوث تطور دراماتيكي سريع في الموقف الأميركي الراهن إزاء الأزمة السورية. إلا أن نقطة التحول الأولى قد حدثت، على نحو يشي بانتهاء فترة عامين من المراوحة الأميركية، لاسيما مع ازدياد ضغوطات الكونغرس على الرئيس، ومطالبات الإعلام له بالكف عن سياسة النأي بالنفس، وفوق ذلك كله دخول إسرائيل المباغت على خط الأزمة كضابط إيقاع لا يشق له غبار في قيادة أوركسترا الاستخبارات الغربية التي تعزف اليوم السيمفونية الكيماوية.