غصتان

غصتان انحشرتا في حلقي حدّ الاختناق، وكنتُ أظنّ الألم هادنني، واعتدتُ حِيَلَه. فأولهما مرض صديقي الأديب الكبير صاحب الفضل على القصة القصيرة والمسرح في الأردن وخارجه والدراما التلفزيونية، وصاحب الفضل على اللغة التي أعبد، جمال أبوحمدان في مرضه الشرس النادر الذي لا ينفع معه علاج ولا دواء. هو الآن في أركنسا أميركا، بين أسرته يواجه رحلته الوشيكة الغامضة بالعبارة الساخرة والترحاب المخلص. يلتفّ جمال بهُزاله وشحوبه وهدوئه الذي لم يعلُ في خضمّ الحياة ونهرها الذي كان دافقاً. حاد العقل والإشارة كأنّ غداً سيقدّم مداخلةً في مؤتمر للأديان أو للفكر التنويريّ. لم تزحزحه صدمةُ الانتقال الوشيك إلى ما بعد الحياة عما جناه من قيم الحب ومبادئ الفكر الحرّ. يغفو بين الحين والحين على أريكة الانتظار، ليستجمع قواه الواهنة لمؤانسة صديقة من خلف البحار، وأسرةٍ تريد أن تحضر له لبن العصفور. فريما -زوجته- التي عصفت بأقداره عصفاً لم تكن لتجد انفكاكاً عنه، ولا هو، كأنّما بسلاسلَ خفيّة ومرئيّة قُيّد الإثنان إلى حبهما الجنونيّ، متمترسين بسعادة الوجود معاً. وها هي ريما تتساقط عليها الكواكب محرقة محاولة فهم هذا الذي يجري.اضافة اعلان
كتبتُ لريما أن تسجل يوميات جمال، مثل: اليوم جمال قال كذا... اليوم جمال قرأ كذا... اليوم جمال طلب أكلة كرشات وكوارع (وفعلاً فعل)... إلخ. فكتبتْ إليّ ريما: "اليوم زارنا الموت. اليوم سكن بيننا الموت"!
لم أكن قد استوعبتُ مرض جمال بعد (وكيف لي أن أستوعبه؟) عندما سمعتُ عَرَضاً عن مرض عبدالله رضوان. اتَّصلتُ به فردّت عليّ ابنته لينا لتخبرني أنه توفي قبل يومين. كان ذلك الخبرُ قُلَّةً من الزيت الحار وقعت على روحي المتسلّخة من خبر جمال. فعبدالله كلمني قبل أسابيع، وهو يعدّ لي في منتدى الرواد الكبار لقاءً شعرياً، وصوته يفيضُ بالمحبّة والعافية، فكيف لي أن أصدّق؟
للحقّ أني لم أستطع أن أحضر عزاءه وأواجه فقده، فحشوتُ ألمي في الفراش، واختبأتُ من الموت الذي يقتحمني في الأصدقاء. ورحتُ أطفو مثل سمكة في الغموض وقلة الرجاء، ممسكةً بحبل لا أدري بأيّ شيء يمسكُ طرفه الآخر. لعلّه الأمل! ولكن... الأمل بماذا؟