"فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام"

د. محمد المجالي

يؤم حجاج بيت الله الحرام هذه الأيام مكة المكرمة، يلبون نداء الله تعالى، معلنين توحيدهم له، وعبادتهم الخالصة لمن يستحقها، فهو الخالق وحده، وغيره مخلوق، ولا يمكن في منطق العقلاء أن يستوي الخالق والمخلوق: "أفمن يخلق كمن لا يخلق!؟ أفلا تعقلون"، فجوهر دين الإسلام هو التوحيد الذي ضلت بسببه أمم وأتباع ديانات، حين أشركوا معه غيره في العبادة والقصد، وهذا أبغض الأمور إلى الله تعالى، فالشرك أكبر الكبائر، والتوحيد أكبر المنجيات للعبد.اضافة اعلان
الحج مواقف عديدة، كلها تذكر بتوحيد الله، وحقيقة المعاد واستشعاره، وهو في الجانب الآخر وسيلة لتعارف المسلمين والتفاعل والتناصح فيما بينهم، محفوف بذكر الله تعالى وتعظيمه، فهو رحلة إلى الله تعالى، وهو تجرد من معظم قيم الدنيا ومتاعها، وتوجه برجاء العفو من الله تعالى، ليعود الحاج أوعى وأتقى وأقوى، فقد تعلم الصبر، واختلط بأنواع كثيرة من بني جنسه، واستشعر نعم الله عليه حين يرى أحوال غيره، ورأى مآسي المسلمين وفكر كيف ينهض بهم، ورأى بعض السلبيات وفكر كيف يصحح أمرها، وسمع آهات كثيرين من عباد الله، وصمم كيف يرقى بنفسه وبهم إلى حيث يليق بالمسلمين.
أيام ويقف حجاج بيت الله على جبل عرفات، ذاك اليوم العظيم الذي فضله الله على سائر الأيام، فله سبحانه وحده أن يفضل زمانا على آخر، ومكانا على آخر، فأعظم يوم أشرقت عليه الشمس هو يوم عرفة، يعتق الله فيه من النار ما يشاء، ويقف فيه الناس شعثا غبرا، تلهج ألسنتهم بذكره سبحانه وحده، يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويدعون لبعضهم رجاء الاستجابة، فما رؤي الشيطان أدحر ولا أحقر منه ذلك اليوم، فهو يوم التوحيد وتعظيم الله وذكره، وينزل ربنا إلى سمائه الدنيا، نزولا يليق به، ليباهي بأهل الأرض أهل السماء، ويعلن أنه غفر لهم.
لا أبالغ إن قلت إن جوهر الدين هو التوحيد، وجوهر الحياة هو العبادة الخالصة لله تعالى مع السلوك الحسن، العبادة الشاملة لنواحي الحياة، عبادة بمفهومها الضيق حيث أركان الإسلام، وعبادة بمفهومها الواسع حيث قصده تعالى في أي أمر مباح، أن يبتغي به وجه الله تعالى، فإن كان الأمر هكذا، فلا شك سيكون صوابا خالصا، فلا يمكن اجتماع الله مع ما لا يحبه الله في قلب مؤمن أبدا، ومن هنا أكد القرآن عموما، وآيات الحج خصوصا على استحضار معية الله بالذكر، فهو ليس ذكر لسان فحسب، بل ذكر قلب يرتجف من ذكر الله، فيعظم الله، ويستشعر تقصيره معه، ويتطلع إلى دوام هذه المعية، فذكر الله تعالى مبادلة بين العبد وربه، ولا شك هو يذكره، بل يتولى أمره، وحينها تشرف النفس بهذه المعية، فقد قال تعالى في الحديث القدسي: "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"، وصدق الله: "فاذكروني أذكركم، واشكروا لي ولا تكفرون".
أمر لافت للنظر أن يحف الذكر أعمال الحج، ليتعود اللسان، ومن ثم القلب على تعظيم الله، فبعد أن ذكر الله تعالى في آيات الحج المنافع التي لا بأس أن يجنيها الحاج، بين الله أهمية الذكر في عرفات: "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام"، وهو في مزدلفة، وبعدها يقول: "واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله، إن الله غفور رحيم. فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا، فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق، ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، أولئك لهم نصيب مما كسبوا، والله سريع الحساب، واذكروا الله في أيام معدودات...".
نلحظ من الآيات أهمية الذكر، فقد ورد مرات عدة، ومنه على وجه الخصوص الاستغفار، واللافت أنه تعالى يبين في حال الانتهاء من المناسك أن يكثروا كذلك من ذكر الله، ونلحظ الربط بين ذكر الله وذكر الأهل خاصة الآباء، فالإنسان حين يستشعر الانتهاء من مناسكه يغلبه طبعه العاطفي، فيتذكر الأهل، وهنا خص الآباء لعظيم قدرهم ومنزلتهم، ومعهم بالطبع بقية الأهل من أولاد وزوجات وأقارب، فهنا في هذه اللحظة حيث الشوق العظيم للأهل، يطلب الله من الحجاج أن يذكروه كذكرهم آباءهم بل أشد ذكرا، حيث الرحمة الحقيقية، وحيث الملجأ الحقيقي للإنسان، فأنيسه الحقيقي هو الله تعالى، حين يرتقي العبد بهذا الذكر الموصل إلى تلك المعية التي يملأ بها قلبه، أنه مع الله، فيكون الله معه.
يوم عرفة معظَّم عند الله، للحاج وغير الحاج، فالحاج يقف على عرفات، يستشعر البعث والحشر يوم القيامة، في موقف مهيب عظيم ليزداد أيمانا ويقينا بالله، وبحقيقة الدنيا الزائلة، ولغير الحاج صياما وتعظيما، فأفضل الذكر في هذا اليوم هو شهادة التوحيد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وحين تعلن الأمة؛ حاجها ومقيمها كلمة التوحيد، فهذا أعظم ما يباهي الله به سائر مخلوقاته، وهنا نؤكد على أهمية التجديد في حياة المسلم، تجديد النية مع الله، وتجديد العهد معه على السير في الطريق الصحيح. ونؤكد أيضا على خلوة المسلم بنفسه، خلوة مؤقتة يومية أو أسبوعية، يحاسب بها نفسه، يصارحها في شأن الله وأين هو من طاعته والتزام أمره، وهو أعلم بنفسه من غيره إلا من الله، عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
حقيق بالمؤمن حينئذ أن يكون في المستوى الذي يحبه الله تعالى، ليكون من أوليائه، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.