فائض ديني لاستيعاب الفشل

شهدت أوروبا صعودا دينيا شمل حياة الناس ومواردهم بعد انهيار الامبراطورية الرومانية (476 م) وتدهور المدن والأسواق وانتشار الجوع والفقر والفوضى، يقول لويس ممفورد إن التصورات الدينية الجديدة أعطت قيمة إيجابية لألوان الحرمان والفشل التي كانت قد عانتها الشعوب الخاضعة لسلطان روما، ذلك أنها حولت مرض البدن إلى صحة روحية، والجوع قسرا إلى الصيام طواعية، وفقدان متاع الحياة الدنيا إلى اتساع في آفاق الامل في النجاة في الآخرة، وحتى الخطيئة صارت طريقا إلى النجاة. فالمؤمن بإعراضه عن كل ما كان العالم الوثني يشتهيه ويجدّ في سبيله خطا الخطوات الأولى نحو تشييد مبنى جديد من الأنقاض، ولقد أنشأت روما المسيحية عاصمة جديدة، هي المدينة السماوية، ورابطة حضرية جديدة هي زمرة القديسين، فهنا كان يوجد النموذج الأصلي الخفي للمدينة الجديدة. اضافة اعلان
وصار الناس بتشجيع من المؤسسة الدينية والكهنة يتقبلون الحقائق الكريهة بدلا من تفاديها أو مواجهتها، وصعدت قيم مساعدة الفقراء والمرضى ومواساتهم باعتبارها وسيلة للمودة وإظهار الحب، وبدلا من التشبث بالوجود في جموع كبيرة طلبا للأمان والطمأنينة؛ فإن المتدينين وأتباعهم رضوا بالتسبيح والعزلة والصمت في أجواء من الصلاة والطمأنينة. وبالطبع يمكن ملاحظة ذلك في التصوف الإسلامي الذي تحول من حركة فلسفية وعلمية إلى طقوس جماعية للإذعان المتستر بالعبادة والتسبيح والزهد.
كانت المباني الرومانية ممقوتة، واصبح الكثير منها بلا قيمة كالمسرح والحمام، وأما المعابد والقاعات الكبيرة التي تتسع لعدد كبير من الناس فقد حولت إلى كنائس، فأصبح معبد أنتونينوس كنيسة القديس لورنزو، ومجلس الشيوخ كنيسة القديس أدريانو، وفي القرن الرابع عشر كان ما يقرب من نصف كنائس روما الألف لا يزال يدل بأسمائه ومبانيه الظاهرة للعيان على أنه وثني الأصل. وصعدت الأديرة باعتبارها القلعة الجديدة، أي نقطة ارتكاز حالت دون انقلاب الانسحاب إلى هزيمة، إلا أنها كانت قلعة للروح. فالدير كان المكان الذي انتقيت فيه الأهداف المثالية للمدينة واستبقيت حية وجددت في النهاية.
وفي الدير نقلت كتب الآداب القديمة من أوراق البردية المتفتتة إلى صفحات الرق المتين، وطورت اللغة اللاتينية باعتبارها لغة العلم والدين، وكرست الأساليب الراقية للزراعة الرومانية والطب الإغريقي، ووقعت الكنيسة في حبائل مسؤوليات دنيوية عندما تولى مقاليدها رجال استهوتهم الرغبة في التوفيق بين المسيحية والمعتقدات والأنظمة السياسية والإدارية. وفي مواجهة الفوضى التي كانت تهدد الأساقفة اضطروا إلى مزاولة السلطة السياسية بل والقيادة العسكرية، وصار الأساقفة يجمعون بين وظيفتي الكاهن والحاكم على النمط الروماني القديم.
تقلصت المدن وبعضها اختفى، وكانت الحياة تنحدر نحو مستوى الكفاف، وكان الفرد في سبيل سلامة بدنه لا أكثر يضع نفسه راضيا ومسرورا تحت حماية زعيم من يقود جماعات للأتاوات، والحال أنه عندما حاق الانحلال بالمدينة أخذت أجزاؤها الأصلية المختلفة تعود إلى الظهور، .. هكذا فإن الزعيم القديم ومن حوله عصبته الحربية عاد إلى الظهور في معقله المحصن باسطا سلطانه على عدد من القرى.
لكن وفي اتجاه آخر رممت الاسوار القديمة للمدن وبنيت أسوار جديدة لصد الغزاة، وبفضل السور كان يتسنى لمدينة صغيرة أن تغدو معقلا بعد أن كانت عديمة الحيلة أمام قوة مسلحة صغيرة، وصار الناس يتوافدون للإقامة فيها بدلا من الهروب منها، وفي مدى بضعة قرون استعادت مدن أوروبا كثيرا مما كانت قد فقدته في أثناء انحلال الامبراطورية الرومانية.