فاصلة بين زمنين

ثمّة فرق شاسع بين ثقافة النّقد، وثقافة الاتّباع في حياة المجتمعات البشرية. كما أنّ سيادة هذا النّمط الثقافي أو ذاك عند شعب من الشعوب، هي التي ستحدّد درجة تقدّمه، ففي الحالة الأولى؛ أي إذا تبنّى هذا الشعب ثقافة النّقد، فإنّه يستطيع أن يثبّت أقدامه بجدارة على السّلّم الحضاري العالمي، وذلك بعكس ثقافة الاتّباع التي تؤدّي بالمجتمع إلى التّقوقع، وإلى مزيد من العزلة والضّعف والتّخلّف.اضافة اعلان
في المجتمع القائم على ثقافة النّقد، نرى غياب المسلّمات، وفي الوقت نفسه نرى كلّ شيء فيه يخضع للأسئلة. ثمّة حوارات عاصفة هنا تنتشر، وآراء يتمّ طرحها في الهواء الطّلق، إذ لا شيء مخبّأ في النفوس، لا شيء مقدّسا، كما أنّه لا أحد يحتكر الحقيقة، فيفرض رأيه ويتسلّط.
في مجتمع ثقافة الاتّباع، يسود هناك الرّأي الواحد، أو الرأي الأعلى، الرأي الذي ما بعده رأي! وتخمد الآراء الأخرى. إنّه مجتمع ثقافة القطيع، حيث الكلّ مساقٌ إلى مصير غامض، ولا أحد يعترض، لا أحد يقول لا. من هنا يمتلئ المجتمع بالكلام المسكوت عنه، بالدّسائس والمؤامرات، وتمرّ عليه أوقات عصيبة، يصبح خلالها عرضةً للانتحار.
في سبعينيّات القرن الماضي، قدّم المفكّر الفلسطيني المعروف هشام شرابي مساهمته المهمّة على صعيد الثقافة الاتّباعية، فكان أن أصدر كتابه "البنية البطريركية"، وهو عبارة عن دراسة معمّقة وشاملة في البنية الأبوية للمجتمع العربي، خلص فيها إلى معاينة الخلل الرئيس في الحياة العربية المعاصرة، القائمة على سلطة البطريرك المطلقة التي تتحكّم في شؤون النّاس، والتي تمتدّ لتتخلّق بصور أخرى كثيرة، تنتشر في جميع نواحي الحياة.
وللأسف فهذه الدراسة كانت يتيمة، ولم يتقدّم هناك أحد ليكملها.
لقد جرّت إلينا ثقافة الاتّباع التي كنّا قد مارسناها كشعوب عربية منذ أواسط القرن الماضي، وذلك حين تحرّرنا من الاستعمار، مزيداً من الويلات. لقد أدّى شيوع الرأي الواحد المطلق، وغياب الآراء الأخرى إلى إنتاج مجموعة كبيرة من الاحتقانات، التي عبّرت عن نفسها بعدد لا بأس به من الصراعات الإثنية والحروب الطائفية والأهلية. لقد انفجرت تلك الحروب في معظم البلدان العربية، وما تزال حتى هذه اللحظة تحصد أرواح الناس، وتمنع حدوث أيّ انعطافات حاسمة باتّجاه المستقبل.
بسبب ذلك كلّه، كنّا على وشك الخروج من التاريخ.
في أحد الحوارات التي أجريت معه في عمّان، أواخر العام الماضي وصف المفكّر العربي المصري عبد الحليم قنديل، عمق الكارثة التي تعيشها الأمّة العربية، وذلك حين أوضح أنّ السنوات الثلاثين الماضية كانت هي السنوات الأكثر ثورية في التاريخ الحديث. لقد نهضت كلّ من اليابان والهند ودول جنوب شرق آسيا. لقد صعد العملاق الصيني وتمّ تداول السلطة في دول أميركا اللاتينية، ولم يبق هناك، يقول بمرارة سوى البلدان العربية التي ظلّت مركونةً في زوايا العتمة والمجهول. 
من تونس انطلقت شرارة الثورة العربية الشاملة، وتقدّم البوعزيزي في اللحظة الحرجة ليعمّد جسده بالنّار.
النار التي أشعلها البوعزيزي كانت بمثابة معجزة، ضربة معلّم، وسوف تشكّل علامة فاصلة بين زمنين؛ زمن القطيع وزمن الشعوب.

[email protected]