فال وأميركا والديمقراطية العربية

مع إنفاذ رئيس المجلس العسكري الموريتاني، العقيد إعلي ولد محمد فال، العهدَ الذي كان قد قطعه على نفسه غداة اعتلائه كرسي الرئاسة بانقلاب عسكري، والمتمثل في تسليم زمام السلطة إلى قيادة مدنية عبر انتخابات ديمقراطية؛ كان منطقياً أن يتوزع الشارع العربي على فريقين، وإن كانا متقاطعين على الأغلب: فريق لا يملك إلا التعبير عن غبطته بالتجربة الشقيقة؛ وفريق آخر لا يستطيع أن يخفي حزنه وهو يقارن واقعه الذي يتسيده الزعيم الخالد إلى الأبد، مع المشهد الموريتاني الذي يتنازل فيه الرئيس العسكري القوي عن منصبه طواعية!

اضافة اعلان

ما يجمع الغبطة والأسى هنا واضح لا يحتاج إلى تعليق، وهو ندرة التداول السلمي للسلطة في العالم العربي حداً كاد يجعل من الحديث عنه أقرب إلى الحديث عن خرافة أو أسطورة، أو حلم جميل في أحسن الظروف، وليكون السؤال الذي ننساه أو نتناساه، ولربما لا نحب أن نسأله: ما الذي يضمن أن لا يظل كل مؤشر على الديمقراطية في هذا البلد العربي أو ذاك، وفي هذه اللحظة أو تلك، حدثاً استثنائياً يستحق الاحتفال، وفي المقابل رثاء النفس في بقاع أخرى من العالم العربي؟

فمنحة العقيد ولد محمد فال إلى الشعب الموريتاني كانت قراراً فردياً خالصاً، والدليل أن الجميع تقريباً كان يشكك، حتى اللحظة الأخيرة، في التزامه وعدَه "الديمقراطي"؛ ليكون ضرورياً ومشروعاً تماماً التساؤلُ: ما الذي يمنع حدوث انقلاب في المستقبل على الديمقراطية الموريتانية، سواء من قبل الرئيس المنتخب ذاته، سيدي ولد الشيخ عبدالله، أو من قبل الجناح أو الأجنحة العسكرية التي لم تؤيد قرار ولد محمد فال نقل السلطة من الجيش إلى مدنيين؟ ألم يسبق المشير سوار الذهب شقيقه العقيد بسنوات طويلة بالتنازل عن عرش السودان وتنظيم انتخابات ديمقراطية هناك، فماذا كانت النتيجة؟ انقلاب يلد آخر، ونظام سياسي يستحق أيَّ وصف ربما إلا وصفَ "ديمقراطي"!

ذات المعضلة-الكارثة تبدو جلية في القلق المتبدي حيال الدعم الخارجي الغربي -الذي كانت تقوده الولايات المتحدة- للإصلاح في العالم العربي. فالأزمة التي تعيشها الإدارة الأميركية الحالية، ولا سيما بسبب النتائج الكارثية لغزو العراق، وهي أزمة ستورّثها للإدارة أو حتى الإدارات التي ستخلفها إلى أمد غير معروف، هذه الأزمة أغرت غير نظام عربي بالتراجع عن الإصلاحات التي كان قد بُدئ بها، ولو لفظياً، وبدأ التهيؤ فعلياً على المستوى الشعبي للعودة إلى المربع الأول، بما يمثل إقراراً بأن الشعوب العربية بلا حول ولا قوة!

عند هذه النقطة، يتساوى أنصار الإصلاح من الداخل مع أنصار الإصلاح المفروض من الخارج أو المدعوم من قبله، فكل الإصلاح المتحقق إلى الآن في كثير من البلدان العربية، وكما تُظهر الأدلة على أرض الواقع، مايزال أسير التوازنات الدولية وحسابات المصالح الخارجية، أو هو في الوضع الأفضل أسير حسابات حسن نوايا شخصية، ومثال ذلك الحالة الموريتانية والتجربة السودانية في عهد سوار الذهب.

وإذا كان هناك من حقيقة بعد ذلك، فهي الاعتراف بأن الشعوب العربية غير مهيأة للديمقراطية فعلاً. لكن هذا الاعتراف لا يجب أن يكون مبرراً لمزيد من قمع الشعوب وإقصائها، كما هو الأسلوب السائد، بل يجب أن يكون هذا الاعتراف بمثابة تشخيص للعلة أو جانب منها للعمل على تربية هذه الشعوب وتنميتها ديمقراطياً، بحيث تكون مهيأة لتجاوز العتبة التي لا تراجع عنها والانتكاس في كل مرة إلى الديكتاتورية تحت مسميات كثيرة مفعمة بالوطنية، من حماية السيادة إلى التنمية، وصولاً إلى منع حرب أهلية في غياب الزعيم الملهم!

وبدهي أن مسؤولية هذه التربية ليست مسؤولية نظام سياسي أو حكومة، بل هي أولاً مسؤولية كل مؤسسات المجتمع، ولا سيما تلك التي تقع خارج السلطة، وكم من نظام عربي يوصف بالديكتاتورية يغدو الخيارَ "الأرحم" مقارنة بمعارضيه المطالبين بالديمقراطية، الذين يفتقدون في الحقيقة أي حس ديمقراطي فيما بينهم، فكيف مع المختلفين معهم من خارج التنظيم أو العقيدة!

[email protected]