فتنة

مر عام على استعادة الدولة العراقية مدينة الموصل، سبقتها ثلاث سنوات من حكم تنظيم "داعش" للمدينة ومحافظتها. عام وما يزال نصف المدينة مهدما ومهجورا، تظهرها الصور والتقارير الإخبارية أطلالا تتكدس تحتها جثث تعفنت لمدنيين قتلوا خلال العمليات العسكرية قبل نحو عام. والمهجّرون ما يزال الآلاف منهم في مخيمات النزوح، والأحياء يبحثون عن أعزاء فقدوهم خلال السنوات الماضية من دون كثير جدوى.

اضافة اعلان

وبهذه المناسبة، أعادت محطة الـ"بي بي سي" عرض الفيلم الوثائقي المتقن الذي حمل اسم "فتنة على ضفاف دجلة" الذي أعده المراسل الحربي المتمرس فراس الكيلاني الذي كتب له أن يعايش أحداث الموصل بكل فظائعها وكاد أن يفقد حياته أكثر من مرة وهو يغطي المعارك من الخطوط الأمامية، ونجح في نقل صورة حية عن الأيام التي عاشتها هذه المدينة العريقة.

استطاع مخرج الفيلم الوثائقي أن يعرض بالكاميرا لهيب "أكبر وأطول معركة حضرية شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية"، وظهرت معالم المدينة تتهاوى تحت ضربات المتقاتلين مع ما يحمله هذا الدمار من مآس إنسانية، فظهر رجل محاصر في القصف وهو يستجدي الجنود ليدفن أمه الميتة قبل أن تتعفن جثتها، ولكن لسبب ما لم يتح له ذلك، ومشهد الأم التي حوصرت مع جثة ابنها الذي قتل أمامها لتحاصرها وحفيدها الصغير الحرب المجنونة وهما في هلع ورعب، كما يسترجع الفيلم مقدمات هذه الحرب من خلال مشاهد مرعبة لمجزرة "سبايكر" التي وقعت في العام 2014 وقتل فيها مئات الشباب على الهوية المذهبية.

ويخلص صانع الفيلم إلى أن حكاية الموصل لم تختتم فصولها ولم تطو صحفها بعد؛ حيث قدّم هذه الخلاصة من خلال أحاديث أهل المدينة العاديين، ومن مظاهر القلق والحزن والخوف من مستقبل مجهول بدت على وجوه أهل المدينة وعلى هياكل جدرانها العتيقة المحطمة. لأجل ذلك وضع المؤلف هذا الفصل من الحكاية في سياق فتنة مذهبية أكلت قلوب الناس وأطاشت عقولهم، وفرقت شملهم وخرّبت ديارهم، ولم يضعها في سياق الإرهاب والإجرام فقط، أو الأجندات والأطماع الداخلية والخارجية وحدها.

لكن، هل قرأ المسؤولون ذلك الدرس القاسي بتمعن؟ أم أن لديهم مقاربات أخرى، خصوصا ونحن نرى أن التحقيقات في سقوط الموصل والمدن العراقية في الشمال والغرب على يد مئات قليلة من المقاتلين لم تفض إلى شيء.

في الجانب الآخر من العراق الشقيق، تشهد هذه الأيام مدن الجنوب والوسط انفجارات شعبية كبيرة في وجه الواقع المرير تظهر أن هناك قدرا مشتركا من المعاناة يجمع الجمهور الأكبر من أهل العراق، فالكل يشكو من تردي الخدمات، وتغول الفساد، وضعف الأداء الحكومي، وإهمال السياسيين بالرغم من تبدل الحكومات ومرور السنوات مما يذكرنا بقول السياب "ما مر عام والعراق ليس فيه جوع".

يبقى أن نقول إن الفيلم المذكور أظهر ما نعرفه من عراقة المدينة الحدباء وأصالة أهلها ونبل محتدهم الذي لم يشوهه تغير الأحوال وعاديات الزمان، وهو ما لمسته المبعوثة الخاصة للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين انجيلينا جولي حين زارت المدينة مؤخرا، فقالت "لم تطلب مني أي عائلة قابلتها في غرب الموصل أي شيء، إنهم لا يعتمدون على مساعداتنا، فالموصل قادرة على تتبع تاريخها الذي يمتد إلى 3000 عام"، وكذلك العراق كله قادر -بإذن الله- على أن يتجاوز محنته ويعود الى حيث يجب أن يكون.