فرنسا، ألمانيا والديمقراطية

الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل - (أرشيفية)
الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل - (أرشيفية)

 ترجمة: مدني قصري
أوليفييه جيرو – (لوموند) 2012/2/7
أصبحت ألمانيا هي النموذج الذي يحتَذى به. وقد أشار نيكولا ساركوزي مرات عديدة لجارتنا فيما وراء نهر الراين، في خطابه متعدد البث التلفزيوني، يوم الأحد الماضي. والمرجعية بالنسبة للرئيس الفرنسي، مرجعية اجتماعية واقتصادية. فهو يطري ويمتدح الاصلاحات التي نفذتها ألمانيا منذ خمسة عشر عاما، والتي أتاحت للشركات الألمانية زيادة قدرتها التنافسية الدولية. إلا أن التحليلات الحالية، تبيّن أن ألمانيا قد انطلقت على مدى خمسة عشر عاما في سياسة تضخمية تنازلية تنافسية مؤلمة مع شركائها الأوروبيين الرئيسيين، وهي سياسة قائمة على أبعاد ثلاثية لا تحسَد عليها: ركود في الأجور، وتباطؤ في الاستهلاك، وانفجار في الفوارق الاجتماعية. وهذه الاستراتيجية تمثل بحق جزءا كبيرا من التقدم الألماني عند التصدير.اضافة اعلان
وفيما عدا ذلك، تجني ألمانيا من مزايا العولمة أكثر بكثير ممّا تحققه فرنسا، وذلك بفعل أسباب بنيوية كان قد أوضحها علماءُ اجتماع مختصون في شؤون العمل والعمالة منذ السبعينيات من القرن الماضي. وهكذا، فإن التنافسية الدولية للمؤسسات الألمانية تستند إلى جودة التكوين والتدريب، وإلى التعاون مع الموظفين الذين يملكون الخبرة والقدرة على المشاركة في إدارة الشركات.
وأخيرا، فإن البنوك الكبيرة، وعلى الخصوص الشركات الكبرى، تقوم بدعم المؤسسات المتوسطة والصغيرة  في مشاريعها  التصديرية، وفي التدريب المهني، وفي التجهيزات الصناعية. ففي ألمانيا تنشأ القدرة التنافسية الصناعية بصورة تضامنية، في شتى فروع الأنشطة الاقتصادية. ولعلنا نلاحظ بوضوح سير خيارات التسيير في المؤسسات الفرنسية الكبرى نحو الانحطاط. فهذه المؤسسات لا هَمّ لها أبدا بتنظيم قطاعاتها، وهي تستحوذ على اعتمادات الدولة المالية المخصصة لدعم مجالات البحث، والإبداع، أو حتى للتصدير.  فلم تتعلم منظمات أرباب العمل الفرنسية بالكاد اكتساب المهنية، ولا تسعى لتحمل المسؤولية فيما يتصل بالأهداف الجماعية.
لقد أخطأ الرئيس ساركوزي إذن في تقدير النموذج عندما نرى وكأنه يستلهم استراتيجية التضخم التنازلي التنافسي. فإذا كان ثمة من نموذج ألماني ينبغي اختياره، فهو النموذج الديمقراطي. فهذا النموذج هو اللامركزية، والمشاركة المسؤولة للهيئات الوسيطة، أو المناقشات العامة الكبرى. ففي الوقت الذي كانت فيه ألمانيا منهمكة في مهمتها التاريخية في تحقيق وحدة الشطرين الألمانيين، أطلق المستشار السابق كول، في التسعينيات، مناقشة عامة عنوانها "في ألمانيا!"، وهي المناقشة التي عُنِيَتْ بمكانة البلاد كفضاء للإنتاج في عالم مُعَلْوَم يسوده اقتصاد المعرفة. لا سبيل لأن نشاطر كل الإجابات السياسية والاقتصادية، أو الاجتماعية، المعروضة في هذا النقاش. إلا أن هذا النقاش قد جنّد المجتمع والأحداث الجارية، لأشهر عديدة، حول أولويات واضحة ومتفاوَض عليها، ومنها البحث، والتربية، وتنمية مكانة السوق في التنظيمات الاجتماعية. وقد كانت هذه المواضيع أهم الاستنتاجات التي تم استخلاصها من هذا الحوار الواسع. فالفرنسيون "أبطال العالم في مرض الاكتئاب أمام العولمة"، ربما لأن السياسيين لم يقوموا بهذا العمل من النقاش العام.
إننا نسخر أحيانا في فرنسا من تباطؤ عملية اتخاذ القرار في ألمانيا. ومع ذلك فإن هيمنة اقتسام السلطة على تركزّها أمر يظهر بوضح في السياق الحالي. إن إجراءات التعيين الشخصي من قبل رئيس الجمهورية لرؤساء الوسائط السمعية البصرية العامة، بحجة أن النظام السابق كان نظاما مختلا، كانت في الحقيقة إجراءات تمثل أنموذجا للانحرافات الديموقراطية الفرنسية الأخيرة. ففي ألمانيا يتم تعيين المسؤولين في الوسائل الإعلامية السمعية البصرية من قبل الكليات المهنية الكبرى، المتكونة أساسا من مسؤولين في  وسائل الإعلام المحلية والإقليمية. هذا وتقوم مجالس إدارية تعددية بتفعيل برامج مشتركة متكاملة وشفافة. والحال أننا قدمنا في فرنسا القرن الواحد والعشرين كل المبررات التي جعلتنا نفضل الإصلاح الأوثوقراطي على خيار الإصلاح الديمقراطي.
إن تجديد النموذج الديمقراطي الفرنسي شرط مسبق أساسي لتجديد النموذج الاجتماعي والاقتصادي. فمن الوسائل السمعية البصرية العامة إلى "الجدل" حول الهوية الوطنية، مرورا بالعلاقة مع الشركاء الاجتماعيين، أو مع النظام القضائي، والانحرافات الديمقراطية الأخيرة، كانت الصورة صورة كاريكاتورية أضحى عدم فعاليتها في التمنية الاقتصادية والاجتماعية خطرا أيضا على تماسكها. لقد عرف الرئيس ساركوزي كيف يوظف الانقسامات السياسية للفوز في الانتخابات الرئاسية في العام 2007. لكنه بعد أن أصبح رئيسا لم يفهم أن الوظيفة تتطلب الانتقال من فن الانقسامات إلى فن تجاوزها. لقد أصبح النموذج الديمقراطي الفرنسي خطيرا، لأن تركيز السلطة التي ينظمها تحوي الكثير من الروادع والعوائق أمام منتخبين قليلي الإلهام.
التوافق الكامن للأغلبيات في البرلمان يمثل بالنسبة لليسار واجبا أخلاقيا في إصلاح الديمقراطية الفرنسية. لا بد من إطلاق الحوار الآن وفورا. وعلى هذا الحوار أن يهيكل الحملة. "لا بد من الجرأة على تحقيق المزيد من الديمقراطية" هكذا كان يقول "ويلي برانت". دعونا إذن نستلهم تجربة جديدة وناجعة من هذا النموذج الذي ثبت نجاحه الكبير عند جيراننا، وحقق قطيعة حقيقية. لا بد بالفعل من مزيد من الديمقراطية، في المدرسة، وفي الجامعة، وفي الأعمال وفي الإدارات، وفي البلديات وفي السلطات المحلية، وبطبيعة الحال، في "باريس" أيضا!


*نشر هذا المقال تحت عنوان: La France, l'Allemagne, la démocratie

[email protected]