فضاء عام للجميع بلا استثناء

 

تتأكد كل يوم الحاجة إلى تنظيم اجتماعي وأخلاقي جديد للجدل والمشاركة العامة في الفضاء العام، ليس بقواعد وقوانين بوليسية، وليس أيضا وفق قواعد الجدل والمشاركة قبل الشبكة، .. فالشبكية تنشئ ثقافتها وقيمها وأدواتها الجديدة التي لا تلائمها القواعد التنظيمية السابقة، .. ففي قدرة جميع الناس اليوم بلا استثناء على المشاركة في الجدل العام وفي مساواة تكاد تكون مطلقة، لم يعد لأحد فضل أو سلطة، ليس لدينا في هذه الشبكة سوى أن يستمع الجميع إلى الجميع في حرية وعقلانية اجتماعية وأخلاقية، وأن يكون لكل فكرة أو مقولة حقها في التشكل والاستماع والجدل، ليس مرفوضا في هذا المجال الجديد سوى الإساءة إلى أحد، أي أحد، وانتهاك القوانين السائدة، ولا تحتاج الشبكة إلى قانون خاص بها، فالحقوق والواجبات واضحة في التشريعات النافذة.

اضافة اعلان

ربما لا يكون سهلا على المشاركين في الفضاء العام وفق تجربة التنظيم الاحتكاري للمعلومات، عندما لم تكن كلمة تنشر أو تبث إلا بموافقة وتنظيم مركزي أن ينتقلوا إلى مجال لا مركزي مفتوح للجميع للمشاركة والجدل، ويحتاجون أيضا إلى التذكير أن التأثير الذي كانوا يتمتعون به ليس مرده إلى المحتوى الذي يديرونه أو يقدمونه، لكنه تأثير مستمد من أن الناس، جميع الناس، كانوا يتابعون مصادر إعلامية بلا منافسة (تقريبا)، وفي ذلك كان في مقدور السلطة والنخب أن تنظم المجتمعات والأفراد في تشكيلات منضبطة، وكان ممكنا بطبيعة الحال أن تحدد السلطات والنخب ماذا يجب أن يعرف الناس وماذا يجب ألا يعرفوا،.. والأكثر خطورة وتنظيما كان في مقدور السلطة أن تحدد من يقول وماذا يقول.

مؤكد بالطبع أن المجال العام قوة اجتماعية وسياسية، ويمكن أن يقود إلى الفوضى وغياب الاتجاه العام، لكنها فوضى يمكن إدارتها وتنظيمها في اتجاهات إيجابية، فأن تفقد السلطة والنخب الاحتكار التنظيمي للمجال العام لا يعني أنها فقدت تأثيرها وأفضليتها في المشاركة والتوجيه، ففي جميع الظروف والأحوال تعبر الأفكار السائدة عن الطبقة السائدة. وسوف يظل في مقدور النخبة أن تقود المجال العام، لكنها تحتاج إلى أدوات وقيم وأفكار جديدة، وليس في مقدورها أن تواصل تأثيرها بالأدوات والأفكار والقيم المتشكلة حول "المطبعة".

وببساطة، يجب أن تكف النخب عن النظر إلى نفسها كشريك ذي امتيازات أو أفضلية في المجال العام، وأن تشارك في حسن نية باتجاه تطوير الجدل العام ليكون في مقدور كل مواطن المشاركة وأن يستمع إليه، الجميع يستمع إلى الجميع، وأن تعيد توظيف إمكانياتها وتفوقها باتجاه تطوير أفكارها ومصالحها لتكون مقبولة أو أكثر قبولا، وأن يكون لها قواعد اجتماعية طوعية ومقتنعة بأفكارها ومصالحها واتجاهاتها وأن تكون أيضا مستفيدة من ذلك فائدة تعود عليها بالرضا والحماس.

سيكون في مقدور الأكثر مالا والأكثر تنظيما أن يطور المجال العام كما في مقدوره على الإفساد والتدمير، لكن من الأفضل أن يستخدم إمكانياته المالية والتنظيمية لبناء مجال عام يستفيد منه الجميع، فعندما يستهدف المجال العام بالتشتيت والإشاعة والتغريق يخسر الجميع، ومن الأفضل للنخبة أن تستفيد ويستفيد معها جميع المواطنين بدلا من العكس، ويحتاج جميع الفاعلين في المجال العام إلى إعادة تأهيل أنفسهم اجتماعيا ونفسيا وروحيا باتجاه قبول الجميع والموافقة على احتمال خطأ الذات وصواب الآخر، .. والقدرة على الاستماع.