فقط (4) أو (5)!

صدم اعتراف الجنرال الأميركي لويد أوستن، أعلى قائد عسكري أميركي في الشرق الأوسط، أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي، أول من أمس، عندما أقرّ بأنّه تبقى فقط 4 أو 5 مقاتلين ممن درّبتهم الولايات المتحدة لقتال تنظيم "داعش" في سورية، بعد أن قام تنظيم جبهة النصرة باعتقال الدفعة الأولى (54 شخصاً) ممن أنهوا برنامج التدريب العسكري الذي أقرته الإدارة الأميركية لمن يسمون بـ"المعارضة المعتدلة" لمواجهة "داعش"!اضافة اعلان
بالضرورة، مثل هذا الإقرار لم يكن غريباً على من يتابعون الأوضاع في سورية، ويدركون -مسبقاً- أنّ الإدارة الأميركية لا تملك استراتيجية مدروسة وخططا عميقة، منذ البداية! فاستراتيجية الحرب على الإرهاب متخمة بالتناقضات، سواء في العراق أو سورية. إذ هناك تناقض، أولاً، في إدراك الإدارة الأميركية بأنّ أبرز أسباب صعود تنظيم "داعش"، عموماً، في البلدين معاً، يتمثّل في الأزمة السُنّية، وشعور ملايين السُنّة، الذين يمتدون في هذه الجغرافيا الواسعة، بالقلق الوجودي على مصيرهم وهويتهم.
وفي الوقت نفسه، تتحالف الإدارة الأميركية في العراق -بصورة مباشرة وغير مباشرة- مع المليشيات الطائفية المدعومة من إيران لمواجهة التنظيم، ما يدفع المجتمع السُنّي، وأغلبه بالتأكيد ليس مؤيداً لداعش ولا لأفكاره، إلى الانحياز إلى هذا التنظيم من باب المفاضلة بين أخفّ الشرّين!
الوضع في سورية أكثر تعقيداً من العراق. فالإدارة الأميركية أعلنت منذ البداية أنّ الأسد لن يكون له دور في مستقبل سورية، لكنّها في الوقت نفسه لا تملك جواباً لليوم التالي لسقوط الأسد، ولم تكن جادّة، بما فيه الكفاية، للتحضير لبرنامج انتقالي ولحكومة ديمقراطية، بل تركت المجال لحالة اليأس والإحباط لدى الشريحة الاجتماعية الواسعة من السوريين، حتى أصبحت الخيارات اليوم بين الأسد وجنوده من جهة، و"داعش" و"النصرة" والإسلاميين من جهة أخرى، في أغلب المناطق السورية!
التناقض الأميركي وصل إلى مرحلة متقدمة كثيراً مع التطورات الأخيرة، سواء مع الدور التركي أو التدخل الروسي العسكري الأخير. فالأتراك لهم أيضاً مصالح متضاربة مع الأميركيين في سورية، ولمّا أعلنوا المشاركة في الحرب على الإرهاب، قبل أسابيع، فإنّ جزءاً كبيراً من الهجمات جاء ضد الأكراد، الذين يمثلون حليفاً للإدارة الأميركية.
ثم جعل التدخل الروسي الأخير الوضع أكثر تعقيداً؛ فإذا قرر الروس القيام بعمليات جويّة ضد "داعش"، فإنّ ذلك يتطلب تنسيقاً مع الأميركيين، حتى لا تقع مشكلات فنية أو ميدانية، وهذا يعني أنّ الأميركيين أصبحوا محاصرين ومجبرين على التعاون مع النظام السوري بدرجة أكبر بكثير مع وجود شريكه المباشر اليوم على الأرض، أي الروس، الذين لن يكتفوا بقتال "داعش"، بل سيشاركون بصورة مكثفة بدعم جيش الأسد ضد فصائل المعارضة الأخرى، ومن بينها تلك التي تعتبرها الإدارة الأميركية معتدلة، ما يجعل شبكة التحالفات والمصالح المشتبكة والمتضاربة في الوقت نفسه أشبه بالمثل المصري المعروف "سمك، لبن، تمر هندي".
من الواضح أنّه مع فشل الجهود الدبلوماسية، والاحتكام إلى السلاح، والتدخل الروسي الجديد، وفشل الاستراتيجيات الأميركية المعدّة، وتخبّط النظام العربي، وضعف نظام الأسد، والنفوذ الإيراني المتنامي، فإنّ الأوضاع في سورية والعراق تسير، بالضرورة، نحو التعقيد والتأزيم والانتقال إلى مرحلة جديدة من التورط الدولي والإقليمي والاستنزاف الإنساني والأخلاقي للعالم.
في مثل هذه الظروف لن يكون الحديث عن وجود فقط 4 أو 5 من مقاتلي "المعارضة المعتدلة" أشبه بالنكتة التي سردها الجنرال الأميركي على مسامع الكونغرس والعالم، بل لن يجدي وجود 5 آلاف مقاتل ممن تطلق عليهم الإدارة الأميركية وصف "المعتدلين"، ولن يتحسّن الوضع في العراق في ظل الشرخ الطائفي الحاد، والصراع داخل أجنحة الحكومة والقوى الشيعية العراقية أيضاً!