فقه الجهاد والقتال

د. أحمد ياسين القرالة

ليس من خلاف بين المسلمين في فرضية الجهاد ووجوبه، فهذا الأمر ليس موضع خلاف أو نزاع بين المسلمين، ولكن الخلاف كان في كيفية هذا الجهاد ومبرراته، فهناك نظريتان في هذا المجال، تذهب النظرية الأولى منهما إلى أن العلاقة مع الآخرين مبنية على الحرب والعلة في قتال غير المسلمين ومحاربتهم هي الكفر لقوله تعالى "وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً".اضافة اعلان
بينما تذهب النظرية الثانية إلى أن الأصل في العلاقة مع الآخر هي السلم؛ وأن الحرب استثناء وهي خلاف الأصل، فالعلة في مقاتلة غير المسلمين هي حربهم وعدوانهم ليس إلا.
ونحن نميل إلى النظرية الثاني ونرى أنها هي التي تتفق مع قوله تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" وتنسجم مع طبيعة الدين ووظيفته في الحياة لقوله تعالى: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" وهي التي تتواءم مع المبدأ القرآني الذي ينص على أن "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ".
ولعل أصعب ما في النظرية الأولى أنها تجعل من ثلاثة أرباع العالم أعداء للمسلمين لا فرق بين محارب وبين مسالم، فهي تفتح باب الصراع الديني على مصراعيه، وتحول العالم إلى ساحة حرب وميدان صراع دائم مع الآخرين، وتعطي للآخرين الحق في محاربة المسلمين والسعي الدائم لإضعافهم ومنعهم من امتلاك القوة.
إن هذه النظرية تصور المسلمين على أنهم أعداء للآخرين لا يقبلون بالتعدد ولا يقرون بالتنوع، ولا يعترفون بغيرهم، كما أنها تبرر للنظرية القائلة إن الإسلام انتشر وينتشر بالسيف.
لقد جر الخلل في فهم الجهاد ووظيفته الكثير من الويلات والنكبات على المسلمين قبل غيرهم، كما أدى إلى تدمير أوطانهم وتحويل دولهم إلى دول فاشلة، خاصة عندما تولت بعض الحركات المشبوهة التي تدعي الإسلام قتل المخالفين ونهب أموالهم وسبي نسائهم تحت مسمى الجهاد، فأضحى القتل باسم الدين ولأجل الدين، مع أن الدين براء من ذلك كله، فليس كالدين عاصم للنفس وداع لحفظها وحمايتها، لقوله تعالى: "وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ".
لم يعد لدي شك في أن فريضة الجهاد انتقلت من كونها فريضة على الأفراد المدنيين لتصبح فريضة على الدولة وحدها، فهي التي تتولى القيام به من خلال الجيوش التي تعدها وتؤهلها لهذا الغاية، فالقتال يحتاج إلى تدريبات خاصة ومعدات معينة ومعلومات استخبارتية دقيقة يعجز الأفراد عنها، بالإضافة إلى وجود اقتصاد حربي ومعنويات عامة تدعم المجهود الحربي وتحقق نتائجه، فما عادت الحرب معتمدة على الشجاعة أو مستندة إلى الكثرة، بل هي تقوم على العلم والمعلومة، فمن امتلكها أدار المعركة بكفاءة واقتدار.
إن هذا التحول في فرضية الجهاد من كونه واجباً على الأفراد ليكون واجباً على الدولة يجرد الحركات المشبوهة والأشخاص الموتورين من استغلال قدسية الجهاد لمآربهم الذاتية، ويحرمهم من إدارة حروب عبثية لا ناقة لنا فيها ولا جمل وكالةً عن غيرنا ونيابة عنهم، كما أنه يعصم المجتمعات الإسلامية من الانزلاق نحو العنف غير محسوب العواقب والمآلات.
لا يوجد جيشٌ في العالم يسمح له شرفه العسكري ووطنيته النبيلة بأن يرى بلده مستباحاً وسيادته منتهكة وأرضه محتلة ثم يسكت أو يقبل بما يجري، فالدفاع عن الأوطان مركوز في الطبع الإنساني لا يتوانى عنه شريف سوي، وإذا احتاج الجيش إلى المزيد من الرجال المقاتلين فالقوات الاحتياطية تصبح الرديف والمكمل لعمل الجيش والمساند له، فهي المؤهلة والمدربة عسكرياً، كما يمكن للدولة أن تستفيد من القوات الشعبية لتكون رديفاً للجيش بعد أن تتولاها بالتدريب والتأهيل.
وهذا الكلام لا يلغي أبداً الحق في مقاومة المحتل ودفعه بكل الوسائل والسبل بعد الإعداد والتخطيط الجيد، فهذا حق تكفله القوانين الأرضية والشرائع السماوية، ولكننا نتكلم عن فريضة الجهاد في الدول المنظمة والمعاصرة؛ إذ لا يمكن اعتبار الجهاد فيها فرضاً على الأفراد لسبب بسيط هو أنه لا يكلف بالواجب من هو عاجز عنه، حتى إن الجيوش في العالم المعاصر لا يتولى جميع منتسبيها المشاركة في العمليات العسكرية؛ إذ تتوزع الأعمال العسكرية بين الاستخبارات والهندسة والخدمات الطبية والتموينية وغيرها؛ حيث تتكامل وتتناغم كلها لتحقيق مقصود القتال وتحقيق غايته، وهو ما أشار إليه قوله تعالى:" وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ".