فكرة ثورية على الطريق

يبدو أن السبيل الأفضل لصنع ثورة في قطاع ما، هو تمريرها بهدوء كقرار إداري بيروقراطي. الحكومة على وشك وضع قانون جديد خاص باللامركزية، يحقق إصلاحا هيكليا جذريا للحكم المحلي، بل ولمجلس النواب الوطني، بما يفتح الباب لقانون انتخاب نيابي جديد.اضافة اعلان
إذن، لا لجان ولا مؤتمرات وطنية، ولا خلوات على شاطئ البحر الميت، ولا ورش عمل تتسابق إليها مراكز ومؤسسات "المجتمع المدني" العتيد، بل على طريقة "أبو زهير"؛ عمل بيروقراطي حكومي على أضيق نطاق، يطبخ القرار الذي عجزت عنه حملات جرارة من الحوارات الوطنية الكبرى.
تذكرون محطات مشروع اللامركزية التي بدأت منذ عقد من الزمان بلجنة ملكية مهيبة، ضمت رؤساء وزراء سابقين وشخصيات رئيسة، وانتهت بعد سنوات بلقاء وطني طُرح فيه اقتراح البدء بـ"تطبيق افتراضي/ تجريبي" للمشروع في محافظة واحدة (بايلوت بروجيكت). واختيرت محافظة مادبا، مكان اللقاء، لتنفيذ المشروع التجريبي. وبتلك الخطوة تم دفن المشروع.
فكرة مجالس المحافظات عادت وظهرت في عهد الحكومة السابقة، لكن على شكل صيغة معاكسة لفصل البلديات المندمجة؛ أي بتوسيع البلدية الكبرى لتكون على مستوى المحافظة. ثم غاب المشروع مع رحيل تلك الحكومة. ولا أعرف كيف تطورت فكرة اللامركزية مع الحكومة الحالية، لكن أول ظهور لها جاء بطريقة عرضية في مسودة قانون البلديات الجديد، الذي نص على وجود مجلس على مستوى المحافظة، مكون من رؤساء البلديات في المحافظة، إلى جانب ممثلي القطاعات المختلفة؛ كغرفة التجارة والصناعة والنقابات المهنية وغيرها، وكأن الوزير التقدمي م. وليد المصري  يمرر خلسة فكرة اللامركزية عبر قانون البلديات. لكن تم الانتقال لاحقا إلى إخراج الموضوع من قانون البلديات، وإصداره بنظام عن مجلس الوزراء. وها نحن نرى أخيرا، وفق الخبر الذي قرأناه، أن الأمر يحسم لصالح إصدار قانون خاص باللامركزية.
كنا مع كل فكرة جديدة، مهما كانت صغيرة، لتطوير الحكم المحلي واللامركزية، لأننا يئسنا من المشاريع الكبرى التي لا ترى النور، ولسان حالنا يقول: خطوة واحدة في الحياة العملية، خير من دزينة مشاريع لا ترى النور. وها نحن نلحق وراء الحكومة في تطور أفكارها، ونبارك هذا التطور. لكننا نقول: افتحوا هامشا للتواصل والحوار؛ لا نريد ورشا ومؤتمرات، بل فقط أطلعونا على أفكاركم واسمعوا ملاحظاتنا.
في الحقيقة، أطلعني الرئيس عرضا وفي وقت مبكر على بعض أفكاره حول انتخاب نواب على مستوى محلي، لتخفيف الضغط الخدماتي على مجلس النواب الوطني، وتقليل عدده أيضا. لكنه كان ميالا إلى إصدار المشروع بنظام. والآن يبدو وكأن الأمر حسم بالتوجه لإصدار قانون، وهذا حسن.
الفكرة الأساسية في المشروع هي سحب جزء من التمثيل البرلماني الوطني وتحويله إلى التمثيل المحلي، بما يتيح المجال لتجاوز قضية "الحقوق المكتسبة"، وتقليص عدد أعضاء البرلمان الوطني، وتوسيع الدوائر الانتخابية، وتحرير النواب من المسؤوليات الخدماتية المحلية الضيقة التي سيضطلع بها المجلس المحلي. والفكرة بالطبع ليست جديدة، لكنها بقيت تدور على مستوى التخيلات والمشاريع النظرية، بينما في الواقع كان مجلس النواب يزداد عددا، والشأن الخدماتي المحلي والشخصي يزداد طغيانا. وقد آن الأوان فعلا لخطوة من هذا النوع؛ فقد ترددنا وتأخرنا لدرجة لا تُحتمل في الإقدام على التغيير.
لا أعرف مصير الصيغة السابقة لمجالس المحافظات المشكلة من رؤساء البلديات وممثلي القطاعات المجتمعية المختلفة، لكن كل شيء قابل للبحث، ولا بد أننا سنخرج بالصيغة الملائمة.