فكرة عن السلام والانتقام!

مناسبة الحديث: النيّة الأردنيّة الرسمية الطيبة لمعاونة الفلسطينيين، ومحاولة إخراجهم من مأزقهم المزمن، باستضافة جولة مفاوضات. أخمّن أنّ معظم الأردنيين والفلسطينيين العاديين لا يتوقّعون، بحدسهم البسيط المسنود بالتجربة، أن يسفر هذا المسعى عن شيء. وحتّى مع "الربيع العربي"، والحديث عن تغير التوازنات الإقليمية، فإنّ المعادلة لم تنعدل بعد بحيث يأتي ساسة الكيان المتغطرسون إلى المفاوضات متواضعين وراغبين في الصلح.اضافة اعلان
في أعرافنا السائدة، إذا اعتدى أحد على آخر فقتله، ساق أهل المعتدي الجاهات والوجاهات طلباً للصلح مع أهل المغدور وشراء السلام. وأفكّر في ذلك بحثاً عن تفسير قد يصلح لاستخلاص درس في السلوك السياسي. وأتأمل بالتحديد فكرة السلام بهذا المعنى، فأجد أن دافع سعي أي طرف معتد للخروج من حالة عداء مع آخر هو الخوف من انتقام الآخر؛ من الثأر. وأتصور أن جديّة القويّ في طلب الصلح، وحجم جاهته، ومدى استعداده للتنازل، تتعلق على مقدار خوفه من قدرة الخصم على الردّ. لا تبتعد هذه الفكرة البسيطة في أصلها عن مفاهيم موازين القوى، أو توازن الرعب/ الردع، في لغة السياسة والحرب. فهناك أيضاً سأضمنُ أن لا تعتدي عليّ إذا جعلتك تعتقد بأنّ لدي من القوّة ما يمكنني من إلحاق الضرر بك بنفس المقدار. وسترغب في تجاهلي، وتجترئ على ازدرائي وإيذائي، إذا بدوت لك قليل الحيلة وفقيراً بوسائل الانتقام. وفي بعض الأحيان، ينفع مع الأفراد والأمم توظيف فكرة "الحرب خدعة"، والاستعانة بالإبهام لإيهام الآخر بأنّك تخفي ما تهدده به. وينفع أحياناً علوّ النبرة وتقمص الثقة لإيقاع الرعب في قلب الآخر، على طريقة الطبل الذي يعلو صوته كلما كبر تجويفه.
في موضوع "السلام" بين كيان "إسرائيل" وبين الفلسطينيين والعرب، يعرف المتابعون المحترفون، وكذلك رواد المقاهي البسطاء الذين يلعبون النرد ويعرّجون على حديث السياسة عرَضاً، أن "المفاوضات" لَم تأتِ أبداً علينا بفائدة. وليست هناك ثيمة تتكرر كلما أثير هذا الحديث أكثر من "وفاة عملية السلام الفلسطينية-الإسرائيلية" وشبعها موتاً. والأسباب التي يعرضها أصحاب الرأي لفشل هذه العملية: تعنت قادة الكيان المتعالين، أو عدم جديّة القادة الفلسطينيين -حسب قلب المحلل وما يريد. وبالكاد يرغب أحد في المغامرة باستخدام لغة شعبية، فيتحدث عن سلام وانتقام.
ولكن، من واقع الخبرة البشرية، بدءاً من المشاجرات العائلية إلى النزاعات الدولية والحروب العالمية، لَم يحدث أن تحقّق سلام حقيقي من دون تقارب احتمال مواجهة الخطر لدى الفرقاء. وبقراءة العقل الأحادي المحشو بأساطير "الجيش الذي لا يُقهر" و"شعب الله المُختار" وحتى "عبء اليهودي الديمقراطي" القادم لتنوير العرب، فإن قادة الكيان لن يأتوا أبداً سعياً إلى صلح وهم آمنون من احتمال الانتقام؛ من دون أن يكون لديهم سبب حقيقي للخوف على وجودهم نفسه إذا لم يُسارعوا إلى فتح قناة حوار، وتجنب ضربة وشيكة ممكنة، بالتنازُل والتواضع وأيّ وسيلة.
في العلاقة مع الكيان العُدواني بالتحديد، لن يعترض أحد على العصبويّة القبَلية، أو فرط القومية، أو الغضبة الوطنية، وكل ذلك. وفي الحقيقة، ليس الغضب للكرامة وكراهية الهوان سمة مخصوصة للقبيلة العربية، وإنّما هي شؤون كونيّة خاضت لأجلها أكثر الأمم حداثة وانفتاحاً حروباً ومعارك –آخرها ردة فعل أميركا على 11/9. أما إذا وصلت المسائل إلى التفاوض على صلح، فإن لقاء الخصمين يحتمل مشهدين: إمّا أن يأتي المضروب أعزل، خالي الوفاض من احتمال التلويح بالانتقام، فيبصم على هوان ويصالح على سفح المتبقي من ماء وجهه؛ وإمّا أن يأتي مرهوب الهيئة، ممتلكاً إمكانية سفح القهوة والخروج، ليعود في اليوم التالي بجيش من الخيل والرجال.
أحببتُ الحديث عن موضوع استضافة الأردن المفاوضات بهذه البساطة لأذكر ببدهيات. أولاً: إن الأردن من عائلة المعتدى عليه، وليس طرفاً ثالثاً يقف على مسافة متساوية من خصمين. ونحن نمرُّ، ثانياً، بمرحلة مخاض حرج، ولسنا بحاجة إلى هدر الطاقة في تجريب المجرّب الذي يحب "تفشيلنا" حتماً. أفضل مساعدة يقدمها الأردن للفلسطينيين، هي أن يشتد ويتعافى، أن يمتلك قدرة سفح القهوة والعودة بالخيل والرجال إن لم يُعجبه الحال. عندئذ سيأتي السلام. ستنتزعه ببساطة، قدرة الانتقام.