فلسطين "خارج الصندوق"..؟!

يقال إن الأميركيين الذين يرتبون "صفقة القرن" لحل القضية الفلسطينية، "يفكرون خارج الصندوق". والتفكير خارج الصندوق في الأصل مجاز يعني: التفكير بشكل مختلف، غير تقليدي، أو من منظور جديد. وتنطوي هذه العبارة غالباً على إيحاء إيجابي لأنها تشير إلى التفكير الابتكاري، الأصيل، الخلاق والإبداعي.اضافة اعلان
لكن "التفكير خارج الصندوق" في الحالة الفلسطينية يعني عند الأميركيين الخروج من "صندوق" الشرعية الدولية. إنه يعني في الأساس التخلص من قرار الأمم المتحدة رقم 242، الذي نصّ على "انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلت في النزاع الأخير"، أي في العام 1967. ويعني التنصل من القرار رقم 194، الذي قرر "وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن، للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم، وعن كل فقدان أو خسارة أو ضرر للممتلكات بحيث يعود الشيء إلى أصله". ويعني أيضاً تجاهل قرار مجلس الأمن رقم 2334، الذي "حث على وضع نهاية للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية"، ونص على "مطالبة إسرائيل بوقف الاستيطان في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وعدم شرعية إنشاء إسرائيل للمستوطنات في الأرض المحتلة منذ العام 1967".
بالنسبة للضمير الوطني الفلسطيني، لم تكن هذه القرارات نفسها مُنصفة، لأنها تجاهلت الحقيقة الموثقة المتمثلة في كون فلسطين أرضاً عربية امتلكها الشعب الفلسطيني تاريخياً قبل 1948. لكن مختلف الاعتبارات جعلت من استعادة أراضي 1967، وحق اللاجئين في العودة، وتفكيك المستوطنات وسحب المستوطنين من الضفة الغربية، حداً أدنى لإقامة دولة فلسطينية ربما تكون قابلة للحياة. لكن ما تسرب عن "صفقة القرن"، يعني "حل" القضية الفلسطينية بمعنى تفكيكها إلى الأبد وتقويض أسس المشروع التحرري الفلسطيني.
من المعروف أن القصد من بناء المستوطنات في الضفة الغربية كان تقطيع أوصال المنطقة وجعلها غير صالحة لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، و"ضم" الأراضي المقامة عليها. وقد أعلن معظم المعلقين "موت عملية السلام" لأن وجود وتوسيع المستوطنات أجهضاها. وليس مفهوماً كيف يمكن "حل" القضية ببقاء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية، بالغرض الذي تخدمه، وكيف يمكن إنهاء احتلال مع الضم النهائي لأراضٍ فلسطينية إلى الكيان بإبقاء مستعمرات ضخمة في دولة يفترض أن تكون حُرة مستقلة.
إذا كانت المستعمرات الصهيونية في الضفة الغربية تُسمى "حقائق على الأرض"، فإن ذلك لا يعني أنها حقائق مقدسة، وهي المخالفة للقانون الدولي. ولو كانت هناك نيّة حسنة تجاه الفلسطينيين، فإنه ليس هناك ما يمنع تفكيكها ببساطة، وسحب سكانها إلى الكيان، كما يفعل أي احتلال ينهي احتلاله. لكن إبقاء نحو 700.000 مستوطن وحشي في كتل تخدمها طرق التفافية حصرية لليهود يعني بقاء الاحتلال فقط، وغرس خنجر دائم في الخاصرة الفلسطينية.
أما مسألة اللاجئين الفلسطينيين، المتوقع أن يعني "التفكير خارج الصندوق" حرمانهم حق العودة نهائياً وتوطينهم في المنافي، فتعني شطب حقوق أكثر من نصف الشعب الفلسطيني. وليس مفهوماً كيف يمكن الحديث عن "صفقة" عادلة بهذه الكيفية. وإذا أضفنا استمرار سيطرة كيان الاحتلال على غور الأردن، وتجريد "الدولة" الفلسطينية من السلاح، فإن هذه الكينونة مقطعة الأوصال والمحاصرة والمحرومة من الكرامة وإمكانية الدفاع أمام عدو وحشي، إنما تشكل إهانة صفيقة لأحلام الشعب الفلسطيني وحقوقه الإنسانية. ولن تكون وفق أفضل تقدير أكثر من حُكم ذاتي محدود تحت الاحتلال، على بضعة قرى ومدن مكشوفة كل الوقت لمعاودة احتلالها. وفي حين يجري كل الحديث عن "أمن إسرائيل" في صفقة ترامب-كوشنر، وليس هناك أي حديث عن "أمن فلسطين". وسوف يضمن أي ترتيب تأكيد سطوة الكيان على الفلسطينيين وتهديد أمنهم وحريتهم وكرامتهم.
ليس من المعقول موضوعياً أن تكون الولايات المتحدة هي الوسيط لحل المشكلة الفلسطينية. ويعني تسليمها الملف لأشخاص معروفين بانحيازهم إلى الكيان الصهيوني قلباً وقالباً أن النزاهة أول الغائبين. ولو كانت لدى هؤلاء نية حسنة، لفكروا أساساً "داخل الصندوق" وابتكروا طُرقاً لتطبيق قرارات الأمم المتحدة التي قبل بها الفلسطينيون –على ظُلمها. لكنهم يفكرون "خارج الصندوق" فقط لأجل المزيد من ازدراء الفلسطينيين وغمط حقهم. ولن يكون ذلك حلاً لأي شيء، وستبقى نهاية المسألة متروكة للتاريخ.