فنجان قهوة عند الجارة

صممت على مقاومة أعراض الكآبة الحادة، التي تمكنت من روحها في الأعوام الأخيرة، فأحالتها إلى ما يشبه الخرقة البالية، عاجزة عن التفكير المنطقي السليم، مكبلة بطاقة سلبية من التردد والخوف والعجز، عن القيام بأي مبادرة إنسانية، تنقلها إلى دائرة التفاعل مع ما يدور حولها من مظاهر حياة، تصنفها عادة وبحكم كآبتها، كتفاهات لا تفضي إلى فرح حقيقي.

اضافة اعلان

وفي سبيل ذلك، قررت أن تهجر الصوفا المقابلة للتلفزيون، حيث اكتشفت أنها تقضي معظم أوقاتها في متابعات بائسة، لأفلام تتكرر على مدار الأسبوع. تتخللها نشرات إخبارية على رأس الساعة، غالباً ما تبعث على البؤس الشديد.

فكرت أن الوقت قد حان، لمواجهة أحزانها كامرأة شجاعة، لا تخشى من الاعتراف بنقاط ضعفها الكثيرة. اعترفت لنفسها أن أبرز هذه النقاط، هي تلك الحساسية الشديدة، التي تحيلها إلى كائن هش، غير قادر على مواجهة أبسط المشاكل، فتلوذ بالصمت طويلاً، بانتظار انقشاع سحب سوداء، تبين أنها غير قابلة للرحيل بسهولة، قاطنة في وحدتها بعد أن أحكمت بناء أسوار عزلتها التي تحجبها عن الآخرين.

طرقت باب الشقة المقابلة في خطوة غير مسبوقة، أثارت استغراب الجارة، التي تقتصر العلاقة معها منذ إقامتها في البناء نفسه على تحيات مقتضبة، وحديث عابر عن حالة الطقس، وتبادل الشكوى حول كسل وتقاعس بواب العمارة الوافد، غير الحاصل على تصريح من وزارة العمل، بسبب تعقيدات اختصرها ذات مرة قائلا: الحياة صعبة يا هانم! ولأن الأجرة التي يتقاضاها زهيدة جداً، فهو يقضي ساعات عمله المفترضة في تنظيف سيارات أهل الحي.

استقبلتها الجارة بتوجس، لم تتخلص منه إلا عندما أكدت لها، أن الزيارة وديّة تماماً، وهي محاولة بريئة لكسر الغربة والجمود في علاقتهما، لاسيّما أنهما متقاربتان من حيث العمر، والظروف الاجتماعية. كان ذلك بعد أن عبرت عن حنينها إلى أيام زمان، حين كان الجيران مثل الأهل، بل أكثر من حيث الانفتاح والألفة.

احتست فنجان القهوة، وحاولت جاهدة فتح مواضيع خفيفة تبعث على البهجة، لا تمت بصلة لشؤون العمارة، من تعطل المصعد إلى تأخر فواتير، لم تنجح في المحاولة؛ لأن الجارة التي اتضح أنها متابعة نهمة للصحافة المحلية، سردت عليها حكاية الرجل الذي قتل زوجته وولديه بتأثير ثورة غضب مفاجئة في ناعور، وآخر اغتصب سيدة سبعينية قبل قتلها، ومعلم مدرسة اقتلع عين تلميذه في سياق تأديبه. سردت تلك الحكايات المروعة، مع تأكيدها بين الحين والآخر أن الدنيا آخر وقت. قاطعتها متسائلة بعصبية: ماذا عنك أنت؟ كيف هي حياتك؟ أحس أنك متعبة طوال الوقت، ما هي أوجاعك الشخصية؟، ارتبكت الجارة، وأخفت دمعة أوشكت أن تسقط من عينها عنوة، حاولت إخفاء حيرتها إزاء اقتراح الصداقة المفاجئ. غابت قليلاً في المطبخ، وعادت تحمل طبقاً، يضم أكواماً من عروق الملوخية. فتحت التلفزيون فظهر الممثل السوري سلوم حداد، الذي يتقن أدوار الشر ببراعة. هتفت بحماسة: في الحلقة الماضية اكتشفت زوجته خيانته، غير أنها لم تتمكن من فعل أي شيء؛ لأنه مصر على الزواج من حبيبته، وقد خيرها بين الطلاق وبين القبول بالضرة على مرارتها، المسكينة بكت كثيراً، وتوسلت إليه أن يعقل وألا يخرب بيته بسبب نزوة عابرة، ورغم أنه اعترف بأنه لا يحبها، وأنه مضطر للحياة معها، بسبب الأولاد فقط، لكن الغبية ماتزال تحبه رغم كل شيء. وضعت الطبق على الطاولة، وانهمكت المرأتان في تقطيع أوراق الملوخية التي يفضلها أولاد الجارة ناعمة جداً، بينما ظلت أحزانهما حبيسة في الصدور المثقلة بالأسرار.