فوكوشيما وانصهار المشتقات المالية

منشأة فوكوشيما النووية اليابانية التي تضررت اثر الزلزال الذي ضرب البلاد - (ا ف ب)
منشأة فوكوشيما النووية اليابانية التي تضررت اثر الزلزال الذي ضرب البلاد - (ا ف ب)

مارك رو*

كمبريدج ـ لقد ذهب المعلقون الماليون إلى تشبيه كوارث اليابان ـ الزلزال، وموجة المد العارمة، والكارثة النووية ـ بالدور الذي لعبته المشتقات المالية في الانهيار المالي العام 2008. والواقع أن التشابه واضح بما فيه الكفاية: فكل نشاط يعود بفوائد كبيرة وينطوي على مخاطر صغيرة ولكنها متفجرة. بيد أن هذا التشابه بين هذين النمطين من الأزمات ينتهي حينما يتعلق الأمر بكيفية منع تكرارها.اضافة اعلان
فبالنسبة لمحطة توليد الطاقة النووية في فوكوشيما، اجتمعت ألف سنة من الفيضان وعيوب التصميم الحميدة عادة لكي تحرم المفاعلات من التبريد بالمياه الجارية وتتسبب في تسربات إشعاعية خطيرة. وفي الأسواق المالية، اجتمع الانهيار غير المتوقع لسوق الأوراق المالية العقارية مع عيوب التصميم التي شابت المشتقات المالية وأسواق إعادة الشراء لإلحاق الضرر بالقدرة الأساسية للمؤسسات المالية على الوفاء بالتزامات السداد.
ورغم أن المخاطر الأساسية نشأت خارج النظام ـ التسونامي في حالة فوكوشيما، والإفراط في الاستثمار في قروض الرهن العقاري بالنسبة للمؤسسات المالية ـ فكان الحظ السيئ وعيوب التصميم من الأسباب التي جعلت النظام عاجزاً عن احتواء الضرر. ففي الولايات المتحدة فشلت المجموعة الأميركية الدولية، وبير شتيرنز، وليمان براذرز ـ وجميعها كانت تتعامل في مشتقات مالية ضخمة و/أو استثمارات في إعادة الشراء ـ الأمر الذي أدى إلى تجميد أسواق الائتمان لعِدة أسابيع مروعة.
ونحن الآن نفهم بشكل جيد المخاطر المحيطة بفوكوشيما والعيوب التي شابت تصميمها. ولكن هذه ليست الحال بالنسبة للمخاطر المحيطة بالمشتقات المالية والتي تهدد الاقتصاد العالمي. ففي فوكوشيما تعمل أطقم العمل ببسالة في محاولة لوقف التسرب الإشعاعي. أما بالنسبة للمشتقات المالية فإن الجهود المماثلة سيئة التوجيه ولن تنقذنا من الحرائق المالية في المرة المقبلة. ونحن الآن نعيد بناء المشتقات المالية والهياكل المالية المرتبطة بها على الصدوع نفسها التي ما تزال نشطة.
إن القائمين على صناعة المال يستخدمون المشتقات المالية لنقل المجازفة: حيث يخوض أحد اللاعبين المجازفة فيما يتصل بتقلب أسعار اليورو على سبيل المثال، ولكنه لا يرغب في تحمل المجازفة المرتبطة بالين، في حين قد يكون الأمر معكوساً بالنسبة لآخر. لذا فإن الأول يَعِد بتسليم اليورو في الأول من حزيران (يونيو) المقبل، في حين يعد الأخير بتسليم الين. وإذا انخفض سعر أي من العملتين في مقابل الآخر، فإن الخاسر يدفع الفارق.
يتولى القائمون على سوق إعادة الشراء تمويل الصفقات. وتبيع الشركات المالية الأصول، مثل سندات الخزانة أو السندات العقارية، في مقابل المال النقدي، وتَعِد بشراء هذه الأصول مرة أخرى، في اليوم التالي غالبا. ولكن مع تشكيل الأموال النقدية القادمة من عمليات إعادة شراء قصيرة الأمد لقدر كبير من القوائم المالية للشركات المالية الرئيسية، فإن أي هزة في الأسواق المالية قد تضرب هذه الشركات بشدة، فتجفف معين تمويل إعادة الشراء بالنسبة لِقِلة من الشركات، كما حدث في العام 2008. وآنذاك أفلست بعض شركات مثل بير شتيرنز.
لا يجوز لنا أن نعتبر كل المشتقات المالية وعقود إعادة الشراء ذات طبيعة شريرة. ذلك أن كلاً منها على حِدة تعمل بشكل مشروع على نقل المجازفة إلى هؤلاء الأفضل قدرة على تحملها، أو تعمل على دعم الحيازات المالية. ولكن إذا ما أسرفت الشركات ذات الأهمية الشاملة بالنسبة للنظام بالكامل في استخدامها فإنها قد تؤدي إلى نسف النظام المالي، وذلك بسبب العيوب التي تشوب تصميمها. وحتى اليوم، ما يزال نحو 70% من التزامات الدين المستحقة على الشركات المالية الأساسية في الولايات المتحدة في هيئة قروض ذات آجال بالغة القِصَر، مثل صفقات إعادة الشراء ليوم واحد.
وفي الولايات المتحدة تكمن عيوب التصميم الرئيسية في قانون الإفلاس، الذي يعفي المشتقات المالية وعقود إعادة الشراء من أغلب القيود التي تحكم الإفلاس. على سبيل المثال، يستطيع المستثمرون الذين يمتلكون مشتقات مالية وعقود إعادة شراء لدى مؤسسات مالية أصابها ضعف الاستحواذ على أصول الشركة قبل ـ وعلى حساب ـ دائنيها العاديين، بل وربما يختمون مصيرها، في حين كان من المحتمل أن يكتب البقاء للشركة إذا أتيح لها بعض الوقت. وكان هذا النوع من التكالب سبباً في خراب المجموعة الدولية الأميركية، وبير شتيرنز، وغير ذلك من الشركات أثناء الأزمة المالية.
الأسوأ من ذلك، ولأن المستثمرون في المشتقات المالية وعقود إعادة الشراء يقفزون إلى أول صف استرداد الأموال من نواح كثيرة، فإن الحوافز التي قد تدفعهم إلى تعزيز انضباط السوق من خلال المراقبة اللصيقة لقدرة أقرانهم على سداد ديونهم وتقنين تعرضهم لأي طرف آخر بعينه تصبح ضئيلة للغاية.
لا شك أن شخصاً ما لابد وأن يكون في الطليعة، وهناك لاعبون ماليون آخرون يخوضون قدراً أعظم من المجازفة لأن اللاعبين في سوق المشتقات المالية وعقود إعادة الشراء يأتون على رأس قائمة الإعفاءات من قانون الإفلاس. ونحن نتوقع عادة أن يهتم أشخاص غيرها بمسألة انضباط السوق. ولكن اللاعب التالي في الصف يكون عادة حكومة الولايات المتحدة، باعتبارها ضامناً للمؤسسات المالية الأضخم من أن تُترَك للإفلاس، وهي في وضع لا يسمح لها بتنظيم هذه الأسواق على أساس يومي. وهي لا تتمتع بالفطنة المالية الكاملة؛ فهي كثيراً ما تقع أسيرة لمن يفترض أن تتولى تنظيمهم؛ وفي الأوقات الطيبة على الصعيد الاقتصادي فإن لا أحد من المسؤولين قد يرغب في إفساد الحفل.
لقد حصل الكونجرس الأميركي على الفرصة لتدارك هذا العيب في تصميم عملية الإصلاح المالي الكبرى التي أستنها في الصيف الماضي عن طريق قانون دود-فرانك. ولكنه لم يفعل.
إذا افتقر المستثمرون في المشتقات المالية وعقود إعادة الشراء وصكوك مقايضة العجز عن سداد الائتمان إلى المعاملة التفضيلية، فإن سلوكهم سوف يختلف. ذلك أنهم في المقام الأول سوف يصرون بشكل أكبر على أن يكون نظراؤهم أفضل تمويلا. فقد تقبلوا المجازفة التي ينطوي عليها التمويل الرأسمالي البالغ الضآلة عندما كانت أموال الحكومة الأميركية هي المعرضة للخطر في الأساس؛ ولابد وأنهم سوف يصبحون أكثر تردداً في القيام بذلك لو كان الرهان على أموالهم الخاصة.
إن عامة الناس ينظرون إلى المخاطر من نوع فوكوشيما بشكل مختلف عن نظرتهم إلى المخاطر المترتبة على المشتقات المالية. فالعديد منهم يخشون المخاطر النووية، التي تتسم بالوضوح والقوة، فيعملون بذلك على إبطاء تطور هذه الصناعة وسط المخاوف المتعلقة بالسلامة. ولكن أسواق المشتقات المالية وصفقات إعادة الشراء تشكل مخاطر غير مفهومة، ويصعب توضيحها عن طريق وسائل الإعلام، ويجد الساسة صعوبة كبيرة في مناقشتها وحلها. وأثناء أي أزمة تجتذب هذه الأسواق انتباه الناس وازدراءهم، ولكن مع عودة الاقتصاد إلى الاستقرار، يفقد عامة الناس الاهتمام، ويتركون الصناعة المالية تتحكم في مصيرها وتتدبر أمورها بنفسها مع القائمين على التشريع.
يتعين علينا أن ندرس كيفية تحميل المستثمرون في المشتقات المالية وعقود إعادة الشراء المسؤولية الكاملة عن قراراتهم عندما نتعامل مع المؤسسات المالية التي تشكل أهمية شاملة للنظام بالكامل. ولكننا بدلاً من ذلك، وبعد أن نجونا من التسونامي المالي في العام 2008، قررنا أن نبني على خطوط الصدع المالية الرئيسية نفسها وبالاستعانة ب التصميم المعيب نفسه.

*أستاذ بكلية الحقوق
في جامعة هارفارد.
خاص بـ"الغد" بالتعاون بروجيكت سنديكيت 2011.