فولتير: رسالة في التسامح

"ذات يوم سيكون كل شيء على ما يرام، هذا هو املنا، أما أن نقول كل شيء على ما يرام فهذا هو الوهم"
خلّد التاريخ الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ماري فولتير (1694 – 1778) باعتباره رائدا في التنوير والتسامح في مرحلة كان يغلب فيها الصراع الديني الدموي بين الكاثوليك والبروتستنت، وبرغم أن فولتير توفي قبل الثورة الفرنسية بإحدى عشرة سنة فإنه يعتبر واحدا من آبائها العظام. وقد كان كتابه "رسالة في التسامح" مرافعة جريئة في وجه التعصب الديني، وذلك عندما وقعت حادثة إعدام جان كالاس البروتستنتي بتهمة قتل ابنه الكاثوليكي، وقد تعرض كالاس لتعذيب شديد، وأعدم تحت ضغط جماهيري متعصب برغم أنه لم يكن ثمة أدنى دليل على ارتكابه جريمة القتل، وقد تصدى فولتير للأغلبية المتعصبة متجاهلا انتماءه الكاثوليكي، ونجحت جهوده في تبرئة كالاس (بعد إعدامه) وإدانة التعصب، لكن الأكثر أهمية فإنها جدالات هيأت للثورة الفرنسية ثم التحولات الأوروبية والعالمية الكبرى في مواجهة التعصب الديني بعدما عصفت بأوروبا حروب دينية طاحنة استمرت حوالي قرنين من الزمان.اضافة اعلان
يقول فولتير: إن التسامح لم يتسبب قط في إثارة الفتن والحروب الأهلية، في حين أن عدم التسامح قد نشر المجازر على وجه الأرض. وإن الاتباع المتعصب والأعمى لرجال الدين حوّل أقوالهم البشرية إلى شرائع مقدسة، لكن ذلك السلوك أدى إلى المجازر، ودعا في مقابل ذلك إلى تعليم الفلسفة بالنظر إليها شقيقة الدين، وهي من نزعت السلاح من أيدي من غرقوا في معتقداتهم الباطلة، فأفاقت العقول البشرية من سباتها.
ويقول فولتير: كن شديد التسامح مع من خالفك الرأي، فإن لم يكن رأيه صائبا فلا تكن انت على خطأ تشبثك برأيك. وفي هذا التقبل يمكن تجنب متوالية الشرور الناتجة عن التعصب والإكراه، فمن يقول لك اعتقد ما أعتقده وإلا لعنة الله عليك، لا يلبث أن يقول اعتقد ما أعتقده وإلا قتلتك. ومن قلة الدين أن نحرم البشر من حرية دينهم، وأن نحول دون اختيارهم لإلههم.
لقد أيدت الشعوب القديمة حرية التفكير، فكان لكل قوم منهم دين، وتعاملوا مع البشر كما تعاملوا مع الآلهة، وآمنوا جميعا بالإله الأعلى على الرغم من أنهم أشركوه بآلهة آخرين أقل منه، لكن لم تكن لهم إلا عبادة واحدة، وكانوا يسمحون بطرق العبادة. ذلك أن الدين وجد لنكون سعداء في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولن نكون سعداء في الآخرة إن لم نكن متسامحين. وهي مقاربة مهمة لملاحظة الخبرة الإنسانية المتراكمة في احترام إيمان الناس ومعتقداتهم، لأن العنف يخلق منافقين، فالإقناع مستحيل حين يسلط سيف التهديد. والذين يجعلونك تعتقد بما يخالف العقل قادرون على جعلك ترتكب الفظائع. وبقدر ما تعتقد ان الدين من عند الله يجب التوقف عن التحكم به. فما دام من عند الله فان الله وحده قادر على حمايته وتثبيته. وقد كان كسر هذا التقليد الإنساني الطويل سببا في أضرار ومصائب وحروب دينية كانت في دمارها وأضرارها أكبر بكثير من أنواع الحروب الأخرى، كما أنها أدامت وعززت الخلافات بين الناس بدلا من نسيانها، وحجبت المصالح المتبادلة بين الأمم، ويمكن ملاحظة كيف تحولت حروب سياسية الى تعاون ومصالح مشتركة عادت على الأمم بالازدهار لكن الخلافات الدينية تكرست على مدى القرون وأنشأت كراهية مدمرة.. إن الخلاف الطويل يعني أن الطرفين على خطأ.
فولتير: رسالة في التسامح، ترجمة هبة حمدان، عمان: دار الأهلية، 2017