فيدرالية الدم

أسوة بكل السوريين، لن يقبل أكراد سورية حتماً العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل العام 2011، وعماده التنكر لأبسط حقوق الإنسان، مضافاً إليه في الحالة الكردية إنكار المواطنة أصلاً على مئات الآلاف من الأكراد تحت مسمى "المكتومين". لكن إعلان الفيدرالية من طرف واحد، في هذا الوقت بالذات، يعني العودة إلى ذلك الوضع، إن لم يكن أسوأ؛ ليس للأكراد السوريين فحسب، بل لسورية ككل طالما أنهم مكون أصيل من مكونات شعبها.اضافة اعلان
بحسب مسؤولين أكراد، جاء الإعلان عن الفيدرالية منتصف الشهر الحالي، من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) تحديداً، رداً على استبعاد الحزب من المشاركة، حتى الآن، في مفاوضات جنيف الساعية إلى التوصل لحل للصراع في سورية. لكن يبدو أقرب للمنطق والحقيقة أن السبب الأهم لهذا القرار الكردي هو توحد الولايات المتحدة وروسيا على دعم الأكراد في سورية كما في العراق؛ باعتبارهم القوة الوحيدة القادرة على التصدي لتنظيم "داعش" في البلدين، وإن داخل حدود وجودهم ونفوذهم، وبما يسمح أيضاً بخلق "بقعتين مستقرتين" يمكن من إنشاء وجود أمني وعسكري أميركي وروسي في هذين البلدين اللذين يؤكد الجميع تقريباً أنهما لا يمكن أن يعودا إلى "أصلهما" الذي أنتجته اتفاقية "سايكس-بيكو". هذا فيما لا تلتقي المعارضة السورية ونظام بشار الأسد إلا على رفض المشروع الكردي، حتى مع حقيقة تحالف نظام الأسد حالياً، صراحة أو ضمناً، مع قوات حزب الاتحاد الديمقراطي عسكرياً.
ومع تواتر التقارير الدولية عن عمليات تهجير جماعي –على الأقل- لسكان عرب في مناطق "الفيدرالية الكردية"، يكون الكيان المأمول ناشئاً حتماً في قلب بيئة معادية؛ سورياً وإقليمياً. فإذا كانت تركيا تعلن صراحة رفضها السماح بنشوء هذا الكيان، فإن إيران بدورها تنظر إليه حتماً كتهديد ملهم لأكرادها، وهي لن تقبل به إلا بقدر تبعيته لها، وبما سيكون غالباً قبولاً مرحلياً. وحتى إقليم "كردستان العراق" قد يتخلى عن الكيان الكردي السوري لأجل مصالحه مع تركيا وسواها؛ ناهيك عن الانقسام السياسي الحاد داخل "كردستان العراق"، بما يعطي مؤشراً على احتمالية عالية لصراع نفوذ بين إقليمي كردستان العراقي والسوري.
باختصار، فإن الفيدرالية الكردية الحالية، لا تحميها إلا دول من الخارج، لاسيما الولايات المتحدة وروسيا. وهذا يعني، ابتداء، تعليق بقاء الكيان الجديد، أو أقلها استقراره، على المصالح والظروف المتغيرة حتماً لهاتين الدولتين. وإذا كانت الولايات المتحدة لا تخفي توقها إلى مغادرة المنطقة، ولاسيما صراعاتها، فإن روسيا بدورها مقبلة على استحقاقات داخلية اقتصادية خصوصاً، قد تجعلها تعيد حساباتها في المنطقة، عداء وتحالفاً، ناهيك عن الشك بشأن رغبتها في التدخل عسكرياً لحماية كيانات غير معترف بها دولياً. وأهم من ذلك، أن الولايات المتحدة، مثلاً، إذ تدخلت لحماية "كردستان العراق" في مواجهة تنظيم "داعش"، فإنها لن تكون قادرة، غالباً إن لم يكن بشكل مؤكد، على حماية "كردستان سورية" في مواجهة تركيا، لاسيما وأن التدخل التركي إن حصل، فسيتقاطع مع مصالح إيران وحتى نظام بشار الأسد.
بالنتيجة، فإن فيدرالية الأمر الواقع لن تكون سوى خطوط تماس ترسمها دماء السوريين؛ من كل عرق ودين ومذهب. وبما يعني تجديد الصراع ولو بعد حين، بما لا يخدم أي فريق. فيما البديل طبعاً اعتراف صريح بحقوق المواطنة الكاملة لكل سوري، سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، على امتداد سورية التي ستكون عندئذ "وطناً" للجميع بحق.