"فيسبوك" ونحل الأخبار والمتون

بسبب السهولة المطلقة في النشر التي أتاحتها وسائط التواصل الاجتماعي، فقد بات الأمر متاحاً لمن يفهم ومن لا يفهم. ومن يعلم ومن لا يعلم. ولسليم النيّة ولخبيثها. لصاحب الأجندة وللمفكر الموضوعي. للأيديولوجي وللشخص الحرّ المستقل. للحاكم المستبدّ وللأفراد والجماعات الثورية المعارضة. لم يعد بالإمكان إغلاق الباب على أحد، أو تكميم صوت. ووسط هذه الحرية العارمة تتسلَّلُ ظواهر وتتشكّل؛ بعضها إيجابي يتيح تواصلاً عفيّاً بين أصحاب الرؤية الواحدة أو المتقاربة، وبعضها يتيحُ تواصلاً هداماً حول أفكار هدامة وخطيرة. وفي فهمكم/ن كفاية!اضافة اعلان
ومما يستوقفني في هذا السيل العرمرم قضيةٌ هي قديمةٌ في الأدب العربي وفي الآداب الأخرى، ألا وهي "النَّحل" أي نسبة نصّ أو كلام أو دراسة (وفي عصرنا صورة أو فيديو) إلى غير قائله/ته. أما "الوضع" فهو تأليفُ كلام أو نصّ أو ما شابه ونسبته إلى شخصٍ آخر (وفي عصرنا إلى مؤسسة أو مجموعة أو حزبٍ أو دولة)، أي اختلاق ما لم يكن موجوداً، والحرص على نسبته إلى غير المختلِق. وهذه قضية كانت مدار معالجة جوهرية في كتاب شهير للدكتور طه حسين هو "في الشعر الجاهلي" الذي صدر العام 1926، تلته زوبعة من الكتب الغاضبة ترد عليه، آخرها الكتاب الأكاديمي الشامل للدكتور ناصر الدين الأسد "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية" (1959، دار المعارف، القاهرة). حيث توسَّع رواة الشعر والأخبار في تأليف نصوص و/ أو في نسبتها إلى شعراء وأعلام، ليسوا هم أصحابها. وإذا ما كان الدكتور طه حسين قد اقترح عدداً من الأسباب لهذا التوسع في النحل والانتحال أهمها الدينية والسياسيّة، فإن الوقت الحاضر يشهد هجوماً شرساً على مواقع التواصل الاجتماعي نحو تأليف القصص والنصوص واختلاق الأقوال المأثورة المبروَزة والمُعتنَى بإخراجها، أي بعبارة أخرى، تزوير الحقائق وتلفيقها بما يخدم وجهة نظرٍ أو تأييد فكرةٍ، هي محط تنازع بين فرقاء، لم تخرج أسبابها غالباً عما ذكره طه حسين: سياسيّة أو دينيّة. ونضيف إليها الأسباب الأيديولوجيّة التي هي أشرس الأسباب قاطبة، وأكثرها حزّاً على الرقاب.
فها هو الدينيّ الأيديولوجي الجديد يصبُّ بقوةٍ في تلميع حركاتٍ وأشخاصٍ والغينَ في معضلتنا الوجوديّة مع السلطة الدينيّة المطلقة التي باتت تتحكَّم في تسيير حياتنا والضغط على مناهجنا في التفكير والسلوك، وتقليص الحريّات وخصوصاً الشخصيّة إلى الصفر أو ما شابه. فأي فيديو أو موقع إلكتروني مضادّ لشيء اسمه حريّة فكريّة محشوٌّ حشواً رهيباً بقصصٍ مختلَقة وموضوعة ومنسوبة إلى فيالق الترهيب الذي يبدأ بالكلام ثم ينتهي بإقامة الحدود وقطع الرؤوس. ومن ذلك مثلاً كيف يتناول هذا القطاع من البشر مفهوم العلمانيّة والعلمانيين وجعله عنواناً للإلحاد، ومفهوم "الجندر" (Gender الذي هو مفهوم علمي محايد للدلالة على العلاقة بين الأنثى والذكر ثقافياً) وجعله عنواناً للمثلية الجنسيّة... وهكذا. وتمضي الفيالق الأيديولوجية في تأليفٍ ووضعٍ ونحلٍ وتزوير دون أن يرفَّ لها جفنٌ ما دامت وسائلها تقوم على تغييب العقل وإشعال نار الكراهية.
وسأمثل على ظاهرة الوضع في التواصل الاجتماعي الحديث بخبرٍ ألَّفه ناشطٌ أيديولوجيٌّ على صفحته في "فيسبوك"، هو في الوقت نفسه داعيةٌ "كوول"، وأستاذ في جامعة أردنيّة، يلفق الخبر التالي: "دكتورة مسلمة محجّبة هي داليا مجاهد مستشار أوباما الرئيس الأمريكي، سألها الصحفيون مستغربين أن لباسها لا يعكس مدى علمها، ظناً منهم أن الحجاب رمز تخلف ورجعية، فأجابتهم بكل بساطة وذكاء قائلةً: ان الإنسان في العصور الأولى كان شبه عارٍ، ومع تطور فكره عبر الزمن بدأ يرتدي الثياب. وما أنا عليه اليوم وما أرتديه هو قمة الفكر والرقي الذي وصل إليه الإنسان عبر العصور وليس تخلفاً. أما العري فهو علامة التخلف والرجوع بفكر الإنسان إلى العصور الأولى. ولو كان العري دليل تقدم لكانت البهائم أكثر تقدماً" انتهى.
ولكن العقل الذي يرفض الروايات التي ريحةُ التلفيق فيها فائحة اكتشف أن المستشارة المحترمة لم تقل هذا الكلام، كما رأينا على صفحتها على "فيسبوك"!
بالمختصر، ليس كل ما نقرؤه على "فيسبوك" وسواه صحيح، خصوصاً ما نسب إلى شخصيات لامعة، كنزار قباني وآينشتاين وابن خلدون وجبران ناهيك عن الرسول الكريم. فالكَذَبةُ كثرٌ، والتمحيصُ قليل.
دعونا في الأمل...!