فيلم شخصي جدّاً

مثل كلِّ الناس يجهرُ دائما بالعبارة التي باتت ذائعة منذ ستة أعوام: "بحب السّيما". يقولها من دون مناسبة، ويُحيلُ الأمرَ إلى أنه مجرد اعتياد على قراءة الصحيفة من الخلف، وتتبُّع عروض الدور المختلفة، وانتقاء أفلام نجومه المفضلين، و"معبودات الجماهير" اللواتي يستدرجنه إلى عتمة صالة العرض كلَّ أسبوع!

اضافة اعلان

لم يجتهد قطّ في تفسير نهمه على مشاهدة الأفلام العربية تحديدا؛ خصوصا القديمة منها ذات النهايات السعيدة بقبلة بريئة تماما. كما لم يسأل أحدا من أهله أو أصدقائه ومعارفه، أو أي شخص يصادفه خارج صالة العرض، عن ذلك السبب الغريب الذي "يدفعنا" لتقديم كلِّ قنوات السينما على قائمة "الرسيفر"، المتخم بمحطات الأخبار والغناء والعلاج بالضرب على موضع الألم!!

يمرُّ يومه بكثير من الهمِّ؛ ترسلُ له منْ يعتقد أنها حبيبته رسالة هاتفية تطلب منه أن يحفظ ما تبقى من كرامته ولا يعاود الاتصالَ بها. ينوي مهاتفتها ويشرحُ، بالماء القليل في وجهه، حقيقة الأمر، لكنَّ الردَّ الأنثوي الآلي يذكره أنَّ رصيده من الدقائق قد نفد، وتكون مناسبة جيدة ليعدَّ كم حياة نقصت من رصيده!

لم تكن رسالة "حبيبته" أكبر المصائب؛ هاتفه يرنُّ بصوت مفرط بالأسى: "ماذا أعطيكِ سوى قدر يرقصُ في كفِّ الشيطان"، وتكون تلك الرنّة التي يحفظها لموظفة البنك حين تذكره بأقساطه المتأخرة!

الأمور الأخرى أكثرُ تعقيدا، وتكفي واحدة منها أنْ تشدّه من ياقته المعروقة دائما إلى "نظارة" عمياء، وذلك بمجرَّد أنْ يتوقفَ "الباص" الذي يستقله بمحاذاة سيارة "التنفيذ القضائي"!

وقبل أن يحدث أي شيء من ذلك، يجمعُ من كلِّ جيوبه سبعة دنانير، ويدخلُ، مع الداخلين، إلى عتمة الصالة التي تمحي ذاكرته تماما؛ فلا يهتم كثيرا لأنه بات يمعن في العمر، وفاته أكثر من قطار؛ فـ "محمد هنيدي" في الخامسة والأربعين وما يزال قادرا على إقناع "سيرين عبد النور" بالزواج منه رغم قامته شديدة القصر!!

لا يكفُّ عن الأمل بأن يبدأ حياته غنيا مثل "أحمد حلمي" في أفلامه الأخيرة، لكن لا يضرُّه كثيرا أن يكافح كما "عادل إمام" و"أحمد زكي" و"نور الشريف"، في أفلام الثمانينيات، ويصير فوق "حبة" بعد أن أمضى تحت "حبَّات"!

يكتمُ في سرِّه انشداده لأفلام السبعينيات "الخفيفة" ومشاهد البحر والنساء اللواتي لا يأخذ إقناعهن بزواج متقشف أكثر من ساعتي عرض متواصل؛ بينما لا يبدو مسرورا في بعض الأفلام الآن؛ وأكثر ما يثيرُ غيظه كيف أنَّ "أحمد السقا" يذهبُ إلى الموت طائعا في آخر فيلمين، وتكون زوجته المرتقبة "هند صبري"!!

الفيلم ساعتان وهو عُمْر مقتضب لا يكفي استمرار الحلم؛ ولا يحلُّ كلَّ مشاكله الشخصية، لذلك عمد إلى شيء غريب، لم أعرفه في البداية رغم أنني كنتُ غالبا ما أجلسُ قربه في "الباص". كان بعد أنْ يقلع السائق بقليل، يولي وجهه ناحية الشباك ويغمض عينيه، ثم يبتسمُ مثل نائم جاءه حلم ضاحك!

عرفتُ السبَبَ، ولم يعد الأمر سرا، فقد راح صاحبنا "يخرجُ" فيلمه الشخصي؛ أعتقد أنه الآن، وأنا أجلس قربه في الباص، صار ثريا وأعظمُ همومه في الحياة خبر كاذب في صحيفة صفراء أفاد أنه انفصل عن "منّة شلبي"!

يُداري فمه بكفه حينَ يتحول الابتسام إلى ضحك، وأنا والركاب كلهم نغمض أعيننا مبتسمين – وثلاثة إلى أربعة غادرهم القلق نهائيا بمباغتة سيارة التنفيذ القضائي– كما لو أنَّ وجهة الباص تسيرُ إلى الجنة!

[email protected]