فيما هو أبعد من العنف الأسري!

صورة مصغرة عن المجتمع عكسها مجلس النواب في نقاشاته لمواد مشروع قانون الحماية من العنف الأسري، على مدى أكثر من جلسة، وهي صورة تظهر ترسخ "الذكورية" بمعناها الاجتماعي النفسي السلبي في المجتمع ومجلس النواب، والتي أظهرتها فاقعة نقاشات ومداخلات نيابية عند الحديث عن المرأة والأسرة والطفل، من قبيل "شو يعني ضرب مرته كف" أو لجوء الأب للضرب "التأديبي" لطفله، وغيرها من مواقف وعبارات تعكس مخزونا تربويا واجتماعيا ونفسيا راسخا في البنية الاجتماعية. اضافة اعلان
ليس هنا مجال نقاش ما ورد في مشروع القانون المذكور من نصوص وأحكام تقدمية وضرورية لمواجهة اتساع ظاهرة العنف الأسري، وهو القانون الذي سعت إليه طويلا فاعليات نسائية وتربوية ومجتمعية، تحصينا للأسرة والطفولة، وبالمحصلة حماية المجتمع ذاته وتقدمه. التوقف هنا هو عند ظاهرة الإيغال بعقلية "الذكورية"، وما يرتبط بها من تشوهات فكرية وسلوكية واجتماعية، يمكن أن تقرأ من خلالها مجموعة واسعة من المشاكل المركبة في المجتمع الأردني والعربي.
رغم كل التقدم والتطور الذي شهده المجتمع العربي والأردني، فماتزال شرائح اجتماعية واسعة ترزح تحت نير الأمية الثقافية والحضارية، على الرغم من اتساع أعداد المتعلمين، وهو ما يظهر في استيطان النظرة السلبية للمرأة، باعتبارها قاصرة وتابعة للرجل، بل وحتى عبئا في كثير من الأحيان، ويجب الحرص على انقيادها وخنوعها لمؤسسة الذكر؛ أبا وأخا وزوجا وابنا، دون أي شخصية مستقلة. لكل ذلك لا يستغرب أن يخرج نائب أو أي مواطن ليستنكر أن يحجر على الذكر "ضرب زوجته كفا" أو منعها من الخروج أو زيارة أهلها، أو حتى منعها من الدراسة في بعض حالات الغلو.
الذكورية المستفحلة لا تتوقف عند الضرب ومصادرة إرادة المرأة، ولا عند مصادرة حقها باتخاذ القرار أو الحصول على ميراثها، بل يتعدّى ذلك إلى انتشار زواج القاصرات في أوساط واسعة، في مصادرة شنيعة لطفولة البنات وحقهن بحياة كريمة ومتوازنة نفسيا واجتماعيا. دع عنك ما يرتكب من جرائم بداعي الشرف وعلى الشبهة.
قد تكون مشكلة "الذكورية" هي في اعتقاد الشخص الواقع تحت تأثيرها المشوّه، أنها صنو الشرف والرجولة والمحافظة على الأخلاق، لكنه الشعور الزائف والملتبس بالعقد. فلو كان ارتباطها بهذه المفاهيم الإيجابية حقيقيا، لما انتشر في شوارعنا وأماكننا العامة والخاصة التحرش الجنسي بأبشع صوره حتى بات كالوباء، يشكو منه الجميع فيما يمارسه الكثير من الشباب ممن تحكمهم العقلية "الذكورية" ذاتها.
يمكن لك أن تلمس آثار "الذكورية" المشوهة في استشراء العنف الأسري، الذي يمارس باتساع على الأطفال والنساء، ويبقى الكثير منه في باب المسكوت عنه. تلمسها أيضا في اتساع العقد النفسية ومشكلة الأمراض النفسية التي تغزو شرائح واسعة دون رحمة.
كما تنعكس في استشراء العنف المجتمعي والجامعي حيث الجميع "ذكور"، تبيح لهم الثقافة السائدة التسيّد في بيوتهم وعلى نسائهم وأخواتهم وبناتهم، فما الذي سيمنع هذه الذكورية من عدم التنازل في الصراعات والخلافات المجتمعية والعشائرية والقبلية. 
حتى التنمر على الدولة والمجتمع والقانون وحقوق الآخرين وعلى الأملاك والمرافق العامة، ورغم وجود أسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية وراءه، فإنه لا تغيب عن أسبابه عقد مجتمع موغل في "الذكورية" بأبعادها الاستحواذية!.
ربما لكل ذلك يمكن القول إن الحاجة ليست ماسة فقط لقانون يتصدى للعنف الأسري، بل القصة قد تحتاج لما هو أكبر وأوسع من ذلك، لثقافة وقيم مجتمعية تقلل من غلواء "الذكورية" الزائفة المستشرية في العقول والأنفس، وتنهش في التماسك المجتمعي من كل الجهات.