في استراتيجيات مكافحة التطرف العنيف، غالبا ما تتفوق السياسة على الأدلة

Untitled-2
Untitled-2

إريك روزاند* - (معهد بروكينغز) 6/5/2019

يكتب أريك روزاند أن الدين يؤدي في استجابات السياسات لمكافحة التطرف العنيف دوراً أكبر بكثير من الدور الذي تنصح الأبحاث به. وهذه المقالة جزء من سلسلة مقالات نشرها مركز بيركلي للأديان والسلام والشؤون الدولية التابع لجامعة جورجتاون.

  • * *
    مع وضع عشرات الدول أُطر عمل وطنية لمكافحة التطرف العنيف، بات بإمكانها الآن أن تستفيد من الأبحاث لمساعدتها على توجيه مسار استراتيجياتها وعملية صنع السياسات لديها. ولكن، على الرغم من هذا الفهم الأكثر تعمقاً لتعددية الأسباب التي تغذي التشدد والتجنيد، غالباً ما تكون السياسات والبرامج المخصصة لمكافحة التطرف العنيف مدفوعة بعوامل سياسية واعتبارات أخرى عوضاً عن البيانات وغيرها من الأدلة. ويظهر هذا الأمر بوضوح شديد عندما يتعلق الأمر بدور الدين في مكافحة التطرف العنيف؛ حيث يؤدي الدين دوراً أكبر بكثير في استجابات السياسات من الدور الذي تنصح الأبحاث بتأديته.
    ما الذي تبينه الأبحاث
    الأدلة التجريبية، التي تشير إلى أن الدين (أو الإيديولوجية) محفز أساسي للتطرف العنيف، قليلة. فالتشدد بالأساس مسألة اجتماعية يمكنها أن تؤمن الفرص لعوامل دافعة جوهرية أكثر، لكنها تَظهر للعيان بشكل أقل. وعادة ما تبين دراسات الحالة مظالم غير دينية وغير إيديولوجية، مثل الفساد والظلم والتفاوت الاقتصادي والتمييز السياسي. وعادة ما لا يكون أولئك المُجندون في مجموعات محاربة أو الذين أصبحوا متشددين وقاموا بارتكاب أعمال عنف متطرف محُفزين بالدين، لكنهم بدلاً من ذلك يرون الدين طريقةً لمعالجة مظالمهم وليحقق لهم وعد المغامرة والانتماء والتحول إلى أبطال.
    لا يستثني هذا الكلام الدين والإيديولوجية من عوامل التشدد، ولا سيما بعد أن يصبح الفرد متطرفاً أو أن "يُلقن عقائد". وتهدف هذه المقالة إلى إيضاح أن الدين والإيديولوجية عادة ما يشكلان جزءاً يسيراً من التطرف العنيف، وبالتالي حكاية مكافحة التطرف العنيف.
    لا أهمية للأبحاث
    على الرغم من هذه الاستنتاجات، يشكل الدين موضع تركيز الكثير من سياسات مكافحة التطرف العنيف وبرامج الحكومات في الخليج والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا بل هو تركيز يفوق اللازم. وعادة ما يتم التشديد على تعزيز التفسيرات "المعتدلة" أو "المسالمة" للإسلام. ويتضمن ذلك قمع المجموعات الدينية (غير العنيفة) التي تنظر إليها النخبة الحاكمة على أنها تتبنى آراء متطرفة، وغالباً ما يتم ذلك بدعم أو تشجيع من الحكومات الغربية التي في الوقت عينه تمول قسماً كبيراً من الأبحاث الجارية حول مكافحة التطرف العنيف والتي تدعو إلى المزيد من السياسات والبرامج لمكافحة التطرف العنيف بالارتكاز على الأدلة والبيانات.
    مثلاً، على الرغم من تشديد وزارة الخارجية الأميركية ووكالة التنمية الدولية التابعة للولايات المتحدة الأميركية على البيانات والتحليلات ومن دعمها لشبكة عالمية تركز على القيام بالمزيد من الأبحاث المحلية حول مسببات التطرف العنيف وعلى تشاطرها (تدعى الشبكة RESOLVE)، يعتنق وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، شأنه شأن رئيسه، نظرة تبسيطية جداً للأمور، والتي تعتبر أن الإيديولوجية "الإسلاموية المتشددة الملتوية" تكمن في جوهر العنف الجهادي، وأن المشكلة ستُحل إن "رفضها" المزيد من القادة السياسيين والدينيين. وتعكس هذه الرؤية بالإجمال رؤية الحكومات في مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج التي تعج بشركاء قريبين من الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب وبدول تواجه تهديدات العنف المتطرف داخل حدودها.
    وتبين مراجعة خاطفة للأقسام المخصصة لمكافحة التطرف العنيف في أحدث نسخة من التقارير القُطرية حول الإرهاب لدى وزارة الخارجية الأميركية كيف أن جهود مكافحة التطرف العنيف في معظم دول الخليج والشرق الأوسط وشمال أفريقيا تركز بشكل شبه كامل على الدين أو الإيديولوجية، على الرغم من توافر الأدلة والبيانات عن الأسباب الجذرية التي تدفع إلى التشدد وتساعد التجنيد للتطرف العنيف.
    يسلط القسم المخصص لمصر الضوء على عمل دار الإفتاء، وهي هيئة رسمية تصدر الأحكام الدينية وتدرب المفتين وتدير مسألة إصدار الرسائل حيال مكافحة التطرف العنيف في القنوات الدينية. ويظهر التقرير كيف أن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام أصدر لائحة تضم خمسين من علماء الدين مخولين بمكافحة الفتاوى الشاذة والمتطرفة والمتشددة. أما التقرير حول الجزائر، فيلاحظ خطوات لـ"نزع السياسة" و"نزع الإيديولوجية" من التداول في المساجد، وكيف أن الحكومة تراقب المساجد لضمان عدم ارتكابها إساءات مرتبطة بالأمن وتحظر استخدام الجوامع كأماكن لقاء عامة في أوقات خارج ساعات الصلاة الاعتيادية. ويركز القسم حول المغرب على عمل الرابطة المحمدية للعلماء، وهي مجلس يضم 47 من رجال الدين المسلمين، والذين يُصدرون الفتاوى لدحض التفسيرات الدينية التي تروجها المجموعات المتطرفة العنيفة وتنسق مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لوضع برامج لمكافحة التطرف العنيف متمحورة حول الشباب. ويصف التقرير أيضاً أعمال معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية، الذي يدرب أئمة من دول في الساحل وما بعد الساحل، غالباً بدعم من مانحين غربيين. ويركز المعهد على تقديم "منهج ديني معتدل لتخريج قادة دينيين مجتمعيين يحدثون تغييراً في الإيديولوجية الإسلاموية".
    وتطغى على القسم المخصص للمملكة العربية السعودية الجهود المبذولة لمكافحة الإيديولوجية، سواء كان ذلك عبر مركز الحرب الفكرية أم المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف (اعتدال) التي ساعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تأسيسه في أيار (مايو) 2017. ويركز القسم المخصص للإمارات العربية المتحدة كذلك على مبادرات مكافحة التطرف العنيف المتمحورة حول الدين والإيديولوجية، بالإضافة إلى إشارة هذا القسم إلى أن البلاد تستضيف مركز هداية الدولي للتميز في مكافحة التطرف العنيف الذي يصب تركيزه خارج المنطقة.
    لماذا تتفوق السياسة على الأدلة عندما يتعلق الأمر بالدين ومكافحة التطرف العنيف؟
    ما سبب هذا الاختلاف إذن؟ غالباً ما تتفوق السياسة على الأدلة عندما يتعلق الأمر بالدين ومكافحة التطرف العنيف، ولا سيما في هذا الجزء من العالم.
    أولاً، يسمح التشديد (الزائد) على الدين والإيديولوجية (وعلى مسائل السياسة الخارجية أيضاً) بشكل ملائم بإبقاء التركيز منصباً على سلوك المتطرفين العنيفين ودعايتهم وليس على الظروف الاجتماعية الاقتصادية أو السياسية في المجتمع، والتي قد تتحمل الحكومة بعض المسؤولية عنها. وكما لاحظت أنيل شيلاين من جامعة رايس، تُفضل بعض الحكومات التشديد على الأسباب الدينية والإيديولوجية بهدف غض الطرف عن إخفاقاتها والتعتيم عليها، مثل العيوب المتأخرة في الحوكمة التي قد تشمل النقص في تأمين الخدمات والفساد.
    ثانياً، كما قال أتش أي هيلير، فإن الدين والإيديولوجية هدفان جذابان للقادة السياسيين وصانعي السياسات الذين ينشدون حلولاً بسيطة لتحدٍ ما؛ إذ يريدون أن يبرهنوا لداعميهم أنهم يفهمون التهديد وأنهم يتصرفون حيال ذلك، حتى لو كان تصرفهم مُضلَّلاً.
    ثالثاً، في معظم الفترة التي مرت منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، أعطت الولايات المتحدة، وبدرجة أدنى، الحكومات الأخرى في الغرب، الأولويةَ لبناء التعاون مع الدول ذات الأكثرية المسلمة بشأن مكافحة الإرهاب ولترسيخه. وخلال هذه الفترة، تمحور التركيز حول تشاطر المعلومات الاستخباراتية والتعاون في المجال العسكري وتطبيق القانون وجعل القادة والمؤسسات الدينية من "المعتدلين" في العالم العربي يرفعون الصوت ضد تفسيرات الإسلام "الملتوية" التي استخدمها البعض لتبرير التطرف العنيف. وفيما تستلزم النقطتان الأوليان نوعاً من التعاون بين الغرب والدول ذات الأكثرية المسلمة، عندما يتعلق الأمر بالبعد الديني، لأسباب قانونية وغيرها، فقد عول الغرب بالإجمال على الدول ذات الأكثرية المسلمة للتصرف. ومن شأن إدخال الأدلة والبيانات حول الدوافع الفعلية للتطرف العنيف في الحوارات حول مكافحة الإرهاب ومكافحة التطرف العنيف مع تلك الدول، ولا سيما نظراً إلى ما يعنيه ذلك من ناحية سوء تصرف الحكومة، أن يهدد بتقويض العلاقة الأمنية الأوسع معها.
    تصوروا التحديات أمام محاولة بناء تحالف عالمي من أجل هزيمة ما يعرف بتنظيم "داعش" لو سعت الولايات المتحدة إلى التركيز على معالجة الدوافع الهيكلية للتطرف العنيف وعلى ما يغذي مشاعر التهميش والإقصاء والاغتراب والمعاملة غير العادلة التي يمكنها أن تجعل الأفراد قابلين للتأثر بدعاية تنظيم "داعش" وغيرها من الدعاية المتطرفة. ويساعد ذلك على تفسير السبب الذي جعل 74 دولة في التحالف العالمي تركز كل انتباهها في ما يخص مكافحة التطرف العنيف على "مواجهة دعاية داعش".
    مع أنه يمكننا أن نتوقع أن تسلط الأبحاث المتزايدة السياقية والمرتكزة على الأدلة حول مسببات التطرف العنيف المزيدَ من الضوء على الدور المحدود الذي يؤديه الدين والإيديولوجية، فإنه لا ينبغي لنا أن نكون ساذجين بما في الكفاية لنتوقع أن ذلك سيؤثر في درجة بروز هذه المسائل في سياسات مكافحة التطرف العنيف وبرامجها.
اضافة اعلان

*زميل رفيع غير مقيم في مركز سياسات الشرق الأوسط، علاقات الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي.
*نشر بالإنجليزية تحت عنوان: In strategies to counter violent extremism, politics often trump evidence