في اقتصاديات الاغتراب (1) عوامل الدفع

د. عبدالحليم محيسن*

قبل 21 عاما شددت الرحال إلى دول الخليج للعمل كخبير اقتصادي في إحدى الهيئات الخليجية المشتركة. انطلقت إلى هناك والأمل يحدوني… والأحلام تدفعني، بتحقيق ما لم أقدر على تحقيقه في وطني. خلعت نفسي من بيئة اجتماعية كنت فيها مستقرا، ومن بين أهلي وأقاربي وأصدقائي الذين كنت بينهم معززا مكرما. تركت عملي الذي كنت أحب وأجيد، وأنال عليه كل التقدير.اضافة اعلان
تبدو قصتي التي ذكرت مألوفة، وعن آلاف الأردنيين ليست غريبة. فهذه حال العديد منا الذين تركوا وطنهم للعمل في الخارج. فما الذي دفعني وغيري الى ذلك.....
في الأدبيات الاقتصادية، حاول علماء الاقتصاد تفسير سبب الهجرة الاقتصادية إلى الخارج (اسميتها بالاغتراب في عنوان المقال تجنبا للدلالة السياسية غير الحميدة للهجرة هذه الأيام). فوجدوا ببساطة ودون تعقيد أن هناك مجموعتين أساسيتين من العوامل. الأولى تتمثل في عوامل الدفع، والأخرى تتمحور حول عوامل الجذب).
وسأصف فيما تبقى لي من هذا المقال سريعا وبشكل عام عوامل الدفع، وسأترك عوامل الجذب لمقال آخر.
قبل انطلاقي للعمل في الخارج قضيت أكثر من عشر سنوات بعد التخرج من جامعة اليرموك العام 1985 في العمل الجاد والمتواصل لدى أكثر من جهة حكومية وخاصة، كان متوسط دخلي أعلى من الدخل المتوسط  للغالبية العظمى من الأفراد في الأردن. لكني مع ذلك لم استطع أن أدخر ما يمكنني من شراء سيارة أو بناء بيت، أو ما يمكنني من توفير أي مبلغ لتعليم اولادي، وهي طموحات عادية يتطلع اليها كل منا مهما كان مستواه المهني والتعليمي.
في ذلك العام (نهاية 1995) كان متوسط الدخل الفردي في الأردن بالأسعار الثابتة أقل من نظيره في العام 1985 سنة تخرجي من الجامعة بنحو 17 %، أي أن مستوى المعيشة للفرد قد انخفض بنحو الخمس بين العامين المذكورين. وسأكتفي بهذا المؤشر الاقتصادي المهم دون بقية المؤشرات الأخرى لاعتقادي بأنه أحد أهم المؤشرات الاقتصادية التي تلخص الوضع الاقتصادي العام لأي دولة.
هذا الانخفاض في مستوى المعيشة كان لي ولغيري عامل الدفع الرئيسي، والدافع القوي للانطلاق في البحث عن فرص للعمل في الخارج. فهل كان هذا العامل كافيا؟، أقول لكم باختصار لا. وهنا ارجع بكم مرة أخرى إلى الأدبيات الاقتصادية التي تناولت التوقعات الرشيدة ودورها في اتخاذ القرار الاقتصادي سواء على مستوى الفرد أو المنشأة أو المؤسسة. فقد صاحب تراجع المستوى المعيشي توقعات بأن يستمر الوضع على ما هو عليه، مما زاد من جاذبية قرار العمل في الخارج. ولعل الارقام في العام 2017 تؤيد هذه التوقعات. فبحسب الاحصاءات الرسمية الأردنية، كان الدخل الفردي بالأسعار الثابتة في هذا العام أقل بنحو 10 % من مستواه في العام 1985، وأن هذا الدخل كان في تراجع مستمر على اساس سنوي طوال السبع سنوات الأخيرة، أي منذ العام 2010، وهي أطول فترة تراجع له منذ بدء نشر الاحصاءات الاقتصادية.
هل أدعي الحكمة بأثر رجعي؟ ... ربما! فقد أكون وجدت ضالتي في هذه الأرقام لأبرر لنفسي (قبل غيري) قرار خروجي للعمل فيما وراء حدود الوطن ...
فهل كنت محقاً في قراري؟ ....صدقوني ان همست لكم بأنه على الرغم من بساطة هذا السؤال وبديهية الإجابة عليه لدى الغالبية، إلا أنه ظل طوال السنوات الإحدى والعشرين يطاردني... دون أن أجد له جوابا يقنعني... وعن طول التفكير في الأمر يردعني ... ربما لأسباب ذاتية دون غيري تعنيني...

*مستشار اقتصادي