في البحث عن محمد حامد

..حينها، كانت صبرا وشاتيلا.
كان المعلمون يدخلون صفنا وعيونهم ممتلئة بدموع يحاولون إخفاءها. لكن الفضيحة كانت مكتملة، وتعبر عن نفسها بلا توقف.
معلم اللغة الإنجليزية كان أكثرهم تأثرا. ما أزال أذكره في تلك اللحظة حين دخل مثل ريح منفلتة من باب ضيق. جاء صوته متهدجا وهو يحاول أن يجعله صارما وقويا. قال بلا مقدمات: "أقفلوا الكتب. سنتحدث اليوم عن صبرا وشاتيلا".اضافة اعلان
تذكرتُ يومي السابق بكامله. وتذكرت ليلي الطويل، وكيف سهرت على التلفاز حتى أعلن التشويش اليومي الرتيب انتهاء البث، وكيف أنني سرقت الراديو الصغير قبل أن أتسلل إلى غرفتي مبللا بالدموع والأمنيات والخوف، متتبعا الأخبار، إلى أن غفوت بلا إرادة مني.
كان الأستاذ غاضبا كما يليق بشاب ثوري سرقوا خرائطه الثمينة وتركوه يصارع حدودا لا يعرف خطوطها الكثيرة.
في الحقيقة، هو من بين قليل من الأساتذة الذين أثروا بي كثيرا، فقد جعلني أحب لغة غريبة على مسمعي، فحاولت أن أتقنها رغم صعاب كثيرة.
كان اسمه محمد حامد، منذ تلك السنوات البعيدة لم أعرف أين حطت رحاله. لم أدر كيف دارت به الحياة، ولا إلى أي طريق وجه خطواته. ولكن رغم ذلك كله، فلا يمر أسبوع إلا وأتذكره، وأتذكر ما ترك في نفسي من أثر لا يمكن لي الحديث عنه بسهولة.
حين دخل صفنا يومها وأمرنا أن نقفل كتبنا، كان يود أن يصرخ في وجه العالم الذي ترك عزلا ليلاقوا مصيرهم بتواطؤ تجار مع إخوة وأعداء.
سألنا في البداية: "مين عندهم تلفزيون؟".
رفع بعضنا يده، وكنت منهم. فبادرنا بالسؤال: "مين حضر الأخبار إمبارح؟".
كنت حضرتها كلها، وأبصرت ما يمكن أن يفعله الضعف، وما يمكن أن يقترفه الجبروت. لكنني، ولأسباب عديدة، آثرت ألا أرفع يدي. بعضهم فعل. لكنه لم يلتفت إليهم، بل وجه إلي عينين حمراوين لا تنمان عن أي تعاطف، وخاطبني بسخرية مريرة: "آآآه.. تابعت المسلسل!!".
كنت أود لو أستطيع أن أخبره بأنني أضعف من أن أناقش ما رأيته على الشاشة الصغيرة، وبأنني أحتفظ بعمري لخسائر سوف تأتي تباعا. كنت أريد أن أقول له إنني أبحث عن شجاعة حقيقية لأصف له منظر الطفلة الميتة التي تتشبث بأمها الميتة. وصورة الولد الوحيد الذي لم يجد سوى طريق المخيم الضيق ليقرر أن يموت فيه. ولكنه لم ينتظر تداعياتي. وجه حديثه إلى أحد "السعداء" الذين كانوا على قدر مسؤولية الأستاذ، فانفجر الطفل في وصف "بهيج" لمجزرة الليلة الماضية.
كانت التفاصيل كثيرة، اشترك بسردها كثير من الأطفال الذين غاب عن بالهم سؤال لم يبد مهماً وقتها: لماذا حدث كل هذا؟ ولماذا نحن محترفون في ندب حظوظنا ونتحدث عن "أبطال ماتوا ببسالة"؟.
يومها، كنت أود لو أقول لهم إن الموت هو النهاية الأخيرة، وأنه ما من شيء سيأتي بعده ليعوضه.
كان ذلك يجول في عقلي حين انبرى الجميع بسرد التفاصيل عن المذبحة.