في التمييز بين الاجتماعي والديني

أظهرت سياسات المواجهة مع جائحة كوفيد 19 أن الأعمال والممارسات الدينية الجماعية يغلب عليها- إن لم تكن جميعها - أنها ذات منشأ اجتماعي وليست أصلا دينيا، وبطبيعة الحال فإن جميع الأعمال والاحتفالات الجماعية تمنح للمشاركين فيها المعنى والانتماء والمشاركة والشعور بالرضا، وقد التبست هذه المشاعر الإيجابية على المشاركين في الأعمال الدينية الجماعية والاحتفالية ليحسبوها دينا، صحيح أنها أعمال إيجابية ومفيدة وفي أحيان كثيرة تكون ضرورية لكن ذلك لا يجعلها دينا نزل من السماء، فليس كل مفيد دينا، كما أنها تمنح المشاركين شعورا جميلا بالرضا والتماسك الاجتماعي لكن ذلك ليس دليلا على أنها من الدين!اضافة اعلان
وفي السياق نفسه يمكن فهم وتفسير دوافع الإقبال على المشاركة في الجماعات الدينية، فقد صعد الدين في العالم باعتباره مكونا رئيسيا في تشكل الاتجاهات والأفكار وانتماءات الأفراد ومشاركاتهم السياسية والاجتماعية، وعاملا مؤثرا في سياسات الدول والقيادات السياسية، وفي بناء الهويات الوطنية والاجتماعية للأمم.
تقدم الجماعات الدينية نفسها على تعددها واختلافها بين الأديان وفي عالم الدين الواحد بأنها الاستجابة الصحيحة لما يريده الله من الناس، وترى في الإقبال عليها دافعا دينيا مستقلا عن أي سياق اجتماعي أو اقتصادي أو نفسي أو بيولوجي، فالدين يبدو مستقلا عما يدور في العالم الأرضي، إذ أنه الرسالة التي نزلت من السماء تحمل الحق الواضح، الذي يقود الناس من الظلمات إلى النور، ومن الخطأ إلى الصواب، وترفض الجماعات محاولة تفسير الإقبال عليها أو الإعراض عنها بأسباب اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية.
ولكن البحث العقلاني في تفسير الظواهر والتشكلات يشغله حتى مع الإيمان بالدين والرسالات السماوية، أو في حياده أو عدم يقينه أن يجد الأسباب والعلل التي تجعل الناس يقبلون أو يعرضون عن الجماعات الدينية؛ بما هي مستقلة عن محتوى النص الديني أو اكتشافه، فالدين موجود ومعروف للناس، ويمارسون تعاليمه أو يتخذون منها موقفا في اتجاهات ومناهج متعددة ومتباينة؛ ما يجعل ردها أو تفسيرها بالمحتوى الديني غير متماسك، وصارت مقولة سائدة وواسعة الاستخدام أن إنتاج فهم النصوص الدينية وتطبيقها وتنزيلها في الفضاء العام أو ممارستها في سلوك الفرد واعتقاده هي عمليات إنسانية متعددة ومتباينة، وتتأثر حتما بالعلم والتجارب والمعرفة والبيئة الاقتصادية والاجتماعية المحيطة والمنشئة، وكذا المعرفة واللغة والثقافة،.. وحتى أعضاء ومؤيدو الجماعات الدينية أنفسهم صاروا في أعمالهم الجامعية والفكرية يستخدمون المناهج المعرفية والعلمية العقلانية في دراسة الظواهر والاتجاهات الدينية في فضائها الاجتماعي والسياسي، وإن كانوا في أحيان كثيرة يستخدمون الأدلة العقلية والمعرفية لتعزيز وتأكيد أيديولوجيات دينية يعتقدون أنها نزلت من السماء وأن صوابها مستمد من هذه «العقيدة» وليس من التأييد العلمي والعقلي!
لقد مثلت الجماعات الدينية على اختلاف اتجاهاتها وطبيعتها ملاذا اجتماعيا للأطفال والناشئة والشباب، حيث أتاحت لأعضائها بيئة اجتماعية متماسكة، كما زودتهم بقدر من الشعور بالرضا والانتماء والمشاركة، وفي أحيان (حسب الجماعات) بالارتقاء الروحي والنفسي، وفي جماعات أخرى منحت أعضاءها مشاعر قوية بالتميز والاستعلاء.