في الذكرى الثانية عشرة لوفاة المحامي الدكتور هشام هاشم

المحامي فادي هاشم

مضت سنوات طوال على فراق والدي، وما يزال قلمي مقصّرا بحقه. أعلم أن الموت حق، وأن النعم لا تدوم، لكن فراقه كان قاسيا وعظيما. واعترافا لفضله وتقديرا لعلمه كان لا بد أن أستذكر محاسنه ونبل صفاته.اضافة اعلان
لقد كان والدي محباً للخير ومحباً للحياة، حريصا على فعل الخير، خصوصاً في مجال التعليم للقريب والبعيد. لم أره يوماً مختالاً أو مباهياً بأفعاله، كان مثالاً حقيقياً للتواضع. إذ رغم العروض المغرية التي قدمت له في القطاعين العام والخاص، فقد آثر العمل في مكتبه الذي أسسه أوائل الستينيات من القرن الماضي في بلده الحبيب الأردن. فجنى ما جنى من نجاح في مهنته وفي مؤلفاته، لأنه علِم وطبّق مقولة "من جد وجد".
ولد د. هشام هاشم العام 1928. وكان منذ الصغر متقد الذكاء. فبعد إحرازه منحة لتفوقه الدراسي في المدرسة الصلاحية بنابلس، شق طريقا صعبة من بيته المتواضع إلى الكلية العربية بالقدس العام 1943، تلك الكلية رفيعة المستوى التي خرجت أوائل فلسطين والأردن، وأذكر منهم صديقيه الدكتور ناصر الدين الأسد والشاعر حنا أبو حنا. ونجح بتفوق، ونال منحة للدراسة في لندن، فاتجه بالباخرة من حيفا لدراسة اللغة اللاتينية أم اللغات الأوروبية. وبعد أن قطع شوطا بدراستها، قرر أن يغير دراسته للحقوق التي لطالما أحبها، معرضا نفسه لخسارة المنحة.
لكن لحسن حظه، استمرت المنحة بعد أن استفاد من دراسة اللاتينية، مما أكسبه خبرة كبيرة بأصول اللغة الإنجليزية، أفضت إلى إنتاج عدة مؤلفات بهذه اللغة، أهمها ترجمة وشرح القانون المدني الأردني. وتخرج بتفوق ليحرز منحة أخرى لمواصلة دراساته العليا في العلاقات الدولية، وكذلك ليصبح محاميا مترافعا بمحاكم انجلترا (Barrister at Law).
عُرف الانتداب البريطاني وقتها بسياسة استدراج أوائل المنطقة للبقاء في بريطانيا، لكنه رفض ومجموعة من أصدقائه، أذكر منهم المحامي عبدالحليم عوض، الجواز البريطاني احتجاجا على سياسة التهويد في فلسطين وأحداث النكبة. وكيف لا وقد كان ذا حس وطني وعروبي عال، فلم يوفر أي مناسبة إلا وتحدث فيها وأفصح عن مشاريع الاستعمار والاضطهاد في مختلف الأندية الثقافية في لندن، وهو ما ذكره بمذكراته الخاصة. كما كانت له عدة مقالات في هذا المجال، أذكر منها سلسلة المقالات التي نشرت في الصحف المحلية الأردنية في السبعينيات عن مشروع تحويل نهر الأردن، ومدى تأثير ذلك على الثروة المائية الأردنية.
وبعد أن عمل قاضيا ومستشارا للحكومة في السودان، درس الدكتوراه في جامعة أمستردام العام 1963، ليكون أول مسلم يتخرج منها منذ تأسيسها العام 1880. وأذكر أنه حدثني عن ساعاته الطويلة التي كان يقضيها في المكتبة. والطريف أن إدارة الجامعة قررت مكافأته بوضع صورته على غلاف كتابها السنوي وهو منغمس بالقراءة بين الكتب. وما أزال أحتفظ بهذه الصورة معلقة في صدر مكتبي.
لاحقاً، عمل أستاذا غير متفرغ في الجامعة الأردنية لتدريس التشريعات الاجتماعية من العام 1968 إلى العام 1973، فقد كان مناصرا وداعما للحقوق العمالية، وله عدة مؤلفات بالقوانين العمالية تعكس اهتمامه الكبير بفلسفة القانون وعلم أصول الفقه الإسلامي. وأذكر من هذه المؤلفات "شرح قانون العمل الأردني: دراسة مقارنة على النصوص والفقه والقضاء في الدول العربية والأجنبية"، وهو الكتاب الذي اعتمد في مختلف جامعات الأردن وغيره من الدول العربية، مثل المغرب والكويت.
الحديث عن والدي يطول. وإنه لمصاب كبير أن تفقد عزيزاً، فما بالك إذا فقدت فارساً ترجل وهو في قمة عطائه. فكل ما أذكره عنه منذ نشأتي وحتى فراقه هو انشغاله بالبحث والعمل. وكانت كتب الأدب والتاريخ والفلسفة تملأ أرجاء بيتنا، وكان دائماً منهمكاً بعمله وإنتاجه بصمت. عجيب السكون الذي كان يكتنفه وقت القراءة، هيبة تنهل منها قوة وإصراراً، سور أمان صلب إذا ادلهمت الخطوب.
أختم بالدعاء لك يا والدي بالرحمة، وأسأل الله الكريم أن يجمعنا بك في الجنة.
رحم الله أبي.. وآباءكم جميعا.