في الرد على المنتقدين.. ماذا ينقمون من المناهج المدرسية؟!

د.خالد عطية السعودي

اشتدّت في الآونة الأخيرة الهجمة على المناهج، والكتب المدرسية في الأردن، وزاد الغمز واللمز من طَرفٍ ظاهر وآخر خفي، وامتلأ العالم الافتراضيّ بسحب من المفردات الناقدة في فضاء من الانفلات خارج المدار الطبيعي! وقد عمل بعضُ كُتاب هذه "الأطاريح" على تشغيل عواطف القرّاء، واللعب بأبنية اللغة، والضّغط على جملة من التّصورات والمفاهيم الثقافية العامّة.. وهكذا وقع بعضُ أصحاب الأقلام في "فخّ" إرضاء عامة الناس.. وتقديم "عنوانات" تختزن رغبة في خطف الأضواء وجلب "الكاميرات"!
إنّ هذه الكتابات بجملتها تتحدث عن تشوّهات خطيرة في الكتب المدرسية بشكل عام، وفي محتوى كتب التربية الإسلامية على وجه التحديد، وتدّعي أن هذه الكتب تدعم "الغلو والتعصّب" وتنمّي ظاهرة "التطرف الديني" وأنّها تحتفي بالرموز القتالية! وتقدم للمتعلمين شُحنة دينية هائلة! وأنّها تُفضي إلى "التّشيع"، والفكر "الدّاعشيّ"! وتغيب عن هذه الكتب القيم الإنسانية المشتركة، وقيم الجمال والتأمل! مما يستوجب -من وجهة نظرهم- ثورة على المناهج لإعادة تصويب المسار!.
وتأتي هذه "الإضاءة" على وقع هذا الجدل المتصاعد، وبين يدي الحقيقة، لا ينبغي لمثلي أن يصمت! فكاتب هذه السّطور جرّد نفسه من أيّ انتماء أو ارتماء سياسي أو حزبي أو اصطفافي أو طائفي.. فهو من تيار المعرفة وحزب "البحث" يحمل درجة الدكتوراة في المناهج والتّدريس، وله العديد من البحوث والدراسات العلمية المحكّمة والمنشورة، كما شارك في الإشراف على تأليف كتب التربية الإسلامية، لصلته القديمة المتجددة بهذا المبحث معلماً ومشرفاً تربويًا، وأستاذاً جامعياً.
عند معالجة قضية ما، علينا البدء من الحقائق الموضوعية، وليس من التعريفات التجريدية "كمبادئ نمو الدماغ!" لبناء محكات سليمة ومعايير دقيقة. وأطلب من القارئ ألا يقبل بهذه "المقالة" فوراً شريطة ألا يرفضها فوراً. وهنا لا بد من وضع القارئ الكريم أمام مجموعة نقاط أساسية:
أولاً- أَطلق بعضُ الكتاب على أفكارهم وتعليقاتهم مفهوم "دراسة"، والدراسة بالمفهوم البحثي، تشتمل على منهجية علمية ذات أصول منظّمة ومحددة، يكتمل هذا الإطار بتحكيم الإشكالية المطروحة من قبل عدد من المختصين في المجال ذاته، وإذا صحّ أن يُطلق على ما نُشر مؤخراً حول المناهج بأنه "مقال" أو "خاطرة" فإنه لا يصحّ بأيّ حال من الأحوال أن يُسمى "دراسة". فما نشر في الصحف يمثل "عجالة سريعة ومتسرعة"، تفتقر إلى الأدوات العلمية الرّصينة، وتشي بأزمة بحث علمي على الصعيدين القيمي والمفاهيمي، وتُؤشّر على الكثير من الشّروخ في "آليات النقد التربوي".
ثانياً- تُمثّل هذه الكتابات قراءة أولية، تمتاز بالسّطحية وتبتعد عن الجوهر والعمق. قراءة "سوداوية" تبحث -بتعسف- عن المناطق الرمادية! قراءة "انتقائية" لجمل وعبارات وكلمات، تم اجتزاؤها خارج السياق، الذي وردت فيه، وإخراجها لعامة الناس على أنها "أخطاء" و"طعنات" في خاصرة الجيل.. هو مجرد ادّعاء تنقُصه الحجة، ويعوزه الدليل، بل يكذبه الواقع والمرئي والمسموع، ويكذبه المنطق الذي تعلّمنا في مدرسته أن الكلّ أكبر من مجموع الأجزاء. 
ثالثاً- إن التّساؤل والنقد مفردتان أساسيتان في خطاب المثقف التّربويّ، ولكن الأهم من طرح "أسئلة" و"انتقادات" بشكل تجريديّ هو البحث عن أجوبة غير تقليديّة وحلول غير نمطيّة.. تتجاوز لغة التشكيك بالقائمين على المناهج، والتّخوين لأصحاب القرار التربويّ، والتّهوين من قيمة العمل الذي تقوم به فرق التأليف والإشراف.. إلى ممارسة الدّور الطّبيعيّ في تقريب المسافة بين المنشود والموجود! إذ إن النّقد غير المدروس يُشكّل تهديداً لاستقرار التعليم وعرقلة لمسيرته، ومحاولة لتوليد أزمات جديدة، لها تعبيراتها الثقافية والسياسية والإعلامية! تُساهم في تعتيم المشهد وإحداث تصدعات ثقافية حادة! بل إن إطلاق "العبارات النارية" تنتج مزيداً من ضاربيّ الطبول.
رابعا- إن إدارة المناهج والكتب المدرسية في الأردن، تعمل بشكل مؤسسيّ، وتضم وحدات إدارية وفنية تقوم على صناعة الكتاب المدرسي، وفق آليات محددة وموثقة، تقتضي إجراءات دقيقة من التحرير العلمي والفني، والمراجعة اللغوية، والتصميم، والرّسم والإنتاج، ويعمل في هذه الإدارة كفاءات علمية ومهنية في مختلف التخصصات، وهي توفّر الأسس المعرفية والطاقات المجتمعية التي تضمن نجاح العمل.
خامسا- إنّ عملية التأليف لا تنطلق من فراغ، وإنما تُبنى على ما يُسمى بالخطوط العريضة، والإطار العام للمناهج والتقويم، كما تعتمد بشكل أساسي على النتاجات العامة والخاصة لمبحث التربية الإسلاميّة، الذي يقوم على إعداده فريق حرفي، متخصص، يعي محاور التربية الإسلامية، ويقدم رؤية شمولية متكاملة مترابطة، ومتراكمة ومتوازنة، تظهر على شكل مصفوفة يُطلق عيها: مصفوفة المدى والتتابع. فالمسألة ليست خبط عشواء، أو عمل حاطب ليل!.
سادسا- يتم اختيار مؤلفي كتب التربية الإسلامية من المعلمين والمشرفين التربويين، وهم الأقرب إلى الميدان التربوي، والأكثر اطلاعاً على حاجات الطلبة ومشكلاتهم، وتخضع العملية لأسس إدارية وتربوية سليمة، تبدأ من الإعلان عن حاجة إدارة المناهج للمؤلفين وفرز الطلبات، وتنتهي بالاختبارات والمقابلات والوقوف عند الكفاءات وأصحاب الخبرة والشّهادات؛ فالكفاءة هي التي تحكم العمل.
سابعا- إنّ الذهنية التي تقف خلف مناهج التربية الإسلامية هي ذهنية تتسم بالأمانة والمرونة واحترام الآخر، ففريق الإشِراف على التأليف – أيضًا- يضم نخبة من الشخصيات الإسلامية الوطنية، إضافة إلى التخصصات التربوية. وهؤلاء يقضون ساعات طويلة بقراءة المادة العلميّة، والتأكد من سلامتها ودقتها. 
ثامنا- تخضع هذه الكتب إلى رقابة دقيقة، من قبل مجلس التربية والتعليم، وما ذُكر عن المجلس -زوراً وبهتاناً- من أنه يتكون من شخصيات تمثيلية غير مهتمة، ولم يتم اختيارهم بأسلوب علمي، كلام غير صحيح، تنفيه السمعة الوطنية العطرة التي تتمتع بها هذه القامات، وينفيه الأداء المتميز لها، فلدى هؤلاء رؤية نابعة من فلسفة تربوية محددة وواضحة، تتناغم والاستراتيجية الوطنية والتنموية للبلاد.
تاسعا- لم يقل أحد من أصحاب القرار السياسيّ أو التربويّ أو الفريق الوطنيّ للإشراف على التأليف أن مناهج التربية الإسلامية وكتبها بلغت حد "العصمة"! بل إن جوهر عملية التأليف هو بمثابة إعادة صياغة لخطاب إسلاميّ بيداغوجي "قابل للتدريس"، يُناسب المرحلة النمائية التي يمر بها المتعلّم، حيث يشترك المؤلفون ولجنة الإشراف في صياغة المادة المكتوبة، وربما استغرقت بعض الفقرات وقتاً كبيراً من المداولات والمقاربات وفق اعتبارات كثيرة. وإذا كانت هناك وجهات نظر أخرى في إجراء إضافة أو حذف أو تغيير أو تعديل.. فإن هذا لا يُلغي المُجمل العام من الكتاب المدرسيّ. 
عاشرا- وما دام أن دين الدولة الإسلام، ويعتنقه غالبية المواطنين، وتستمد المؤسسة التربوية أسسها الفلسفية ومنطلقاتها الفكرية من الإسلام عقيدة وشريعة، فلا عجب أن تُعزّز بعض الكتب المدرسية الأخرى: كاللغة العربية، والثقافة العامة، بنصوص دينية، علماً بأن هذه النصوص الواردة تمّ تقديمها كشواهد لغوية أو كأمثلة مُشرقة تدعم مهارة أو أكثر من مهارات اللغة العربية. وتأسيساً على ذلك فإنّ المطالبة بإقصاء العناصر الدينية من الكتب المدرسية الأخرى، والمطالبة ببناء تعليم الدين الإسلاميّ على أساس "معرفي تثقيفي" لا "وجداني تربوي" سيُفضي إلى قصور واضح وفاضح في فهم العلاقة مع "الله" و"الآخر" و"الحاكم" و"المؤسسات" و"والمنجزات الوطنية والإنسانية". وربما تقود هذه الصياغة نحو طريق مختصر غير مستقيم، يغرق فيه بعض الطلبة -لاحقا- في مستنقع التكفير والتعصب الديني..!
حادي عشر- إن جانباً من المناقشات الواردة يمسُّ الإسلام عقيدة وشريعة، فبعض المقالات تشير إلى ما يُسمى بـ:" الحرب الإسلامية التي نشر فيها الدين بالقوة.."، بل ثمة محاولات للتسلل إلى "الثوابت الإسلامية"! والغريب أنه كلما دخل المجتمع في حالة بعثرة أو تناثر أو تعددت المشكلات التي يواجهها، أشار البعض بأصابع الاتّهام إلى مناهج التّربية الإسلاميّة وكتبها، بل توسيع الدائرة نحو جميع منابر الخطاب الإسلاميّ ومؤسساته، فيصبح الجميع مُتّهماً في نظرهم، ولا يُفرّقون بين أحد منهم، فيضعون الجميع في سلّة واحدة ويرمونهم عن قوس واحد!
ثاني عشر: تحتشد كتب التّربية الإسلاميّة بالقيم الفاضلة التي تركز على مفهوم المواطنة الصادقة والتسامح بين أبناء المجتمع الواحد، واحترام الرأي والرأي الآخر والعيش المشترك والتعددية، ولا تزعم كتب التربية الإسلامية أن الأخلاق الطّيبة والقيم الفاضلة ترتبط بالإسلام حصرياً، أو أن الإسلام هو المصدر الوحيد لهذه القيم، ففي أبجديات الدين الإسلامي:" إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ثالث عشر: إن الحديث عن وجود محتوى داخلي في كتب التربية الإسلامية "مُضمر"، يتمثل في وجود تأويل واحد للنص الديني بوصفه الحقيقة المطلقة! غير موجود، بل هو رجم بالغيب، لا يصمد أمام استخدام أداة علمية لتحليل المحتوى النصّي، فما هي (أدواتكم العلمية) في تحليل ما وراء الخطاب اللفظي، او الخطاب المكتوب..؟ أم أنه تحليل للنوايا، وإسقاط للأوهام والتخوفات؟!.
رابع عشر- إن الخريطة المفاهيميّة الواردة في كتاب الصّف التّاسع الأساسيّ (القديم) والتي أثارت جدلاً واتخذها البعض نافذة لتعرية المناهج! هي محاولة يائسة للخروج بانتصارات زائفة، ورغم ذلك فإنّ عدم اكتمال معلومات الخريطة المفاهيمية لا ينفي صحة الموجود منها، والموجود يقتصر على موضع الشّاهد، باعتباره تمهيداً للدروس القادمة، ولا يُكرس أفضلية للسيدة فاطمة الزهراء، إلا بما أثبتته النصوص الدينية المعتبرة في فضلها رضي الله عنها، ومجرد ذكر هذه الأعلام لا يؤسّس لفهم "تشيعيّ" نحو آل البيت الأطهار.
خامس عشر- إنّ دروس الجهاد لا تمتد عبر جميع سنوات الدّراسة، بل يتمّ عرضها في صفوف محددة، وعلى نحو يبين أنّ الجهاد هو استفراغ الوسع والطاقة في عمل الخير، فالوظيفة جهاد، وتربية الأبناء جهاد، وإعمار المساجد والمدارس والمستشفيات جهاد.. والشعر والأدب والفن هو جهاد..أما القتال – فهو إحدى صور الجهاد بالنفس- فيتم الحديث عنه بصورة محددة ودقيقة وفي إطار من القيم الفاضلة، وتؤكد مناهج التربية الإسلامية في تعليمها للطلبة أن الآية القرآنية:" لا إكراه في الدين" ليست مجرد شعار بل هي شعيرة، وممارسة عملية، تثير الاقتداء، وتخلص الناس من التسلط والاستعباد، وترفع الوصاية الدينية من البشر على البشر.
سادس عشر- إنّ "الآخر" في كتب التربية الإسلامية، لا يقتصر على الكفار والروم والأعداء- كما زعمت بعض الكتابات- بل لقد أجرى الباحث دراسة محكمة منشورة حول صورة الآخر في كتب التربية الإسلامية أثبتت نتائجها وجود ثلاثة صور: الآخر الإيجابي والآخر السلبي (المعادي) والآخر المحايد، وأثبتت أن مناهج التربية الإسلامية وكتبها تؤمن أن الاعتراف بالآخر ليس أمراً طرفياً عارضاً، أو مناورة سياسية أو شعاراً ابتزازياً؟! وإنما هو نزوع فطري، وتكليف شرعي، وضرورة اجتماعية.
سابع عشر- ثمّة فرق.. وفرق كبير بين المنهاج "المخطط"، والذي تعمل عليه المؤسسة الرسمية في التربية والتعليم، وبين المنهاج "المنفذ أو المتحقق فعلياً"، الذي يقوم بتدريسه المعلم. إن هذه الفروق ليست مؤشرات حقيقية للحكم على سلامة أو رداءة المنهاج المكتوب، ونحن إذ نُقيِّم مناهج التربية الإسلامية وكتبها أرجو أن ننخلع من ذواتنا ومصالحنا الشخصية، وأن نتجنب التنقيص من قيمة عمل الآخرين، وأن لا نتهاون في استخدام المعايير والمؤشرات العلمية؛ حتى لا نُصاب بالعمى الإدراكيّ أو عمى الألوان، حينها سيتشابه علينا البقر، ويختلط عندنا الحابل بالنابل!.
فلقد وقعت مناهج التربية الإسلامية بين طرفي إفراط وتفريط: طرف يتهمها بالتهاون، و"تفريغ" الدين الإسلامي من محتواه، وطمس ملامح الشحصية المسلمة المتميزة بهويتها، وتجهيل الناشئة بأحكام دينها، ويُلبسها سرابيل الغيّ والارتداد، ويعزوها حالة من البضائع "الأميركية" المستوردة! ويُرجعون الأمر إلى وجود سوء "النية" في جعل هذه المناهج ممسوخة حتى لا تؤدي دورها المنشود في البناء الدينيّ للطالب! وطرف آخر يتهمها بالتشدد، و"تفريخ" صناع الموت، والارهابيين، ويلبسها ثوب الدماء والأشلاء، ويعزوها حالة من البضائع التي تُصنع في "الكهوف" وتكتب بالسيوف!.
ثامن عشر- وإذا كان السلوك محكوماً بنتائجه، فعلينا أن ننظر إلى واقع الحال، حيث إنّ عدداً من الدول العربية تستدعي المؤلفين الأردنيين، للقيام بتأليف كتبهم المدرسية في مختلف المباحث ومنها مبحث التربية الإسلامية، بل إن المناهج الأردنية هي المعتمدة من قبل المنظّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في المدرسة العربية بتونس. ثم لنضرب الذكر صفحاً عن هذا ولنتأمل حالة التعايش بين المواطنين في الأردن على اختلافهم أصولهم ومنابتهم ودينهم، أوليس النموذج الأردني في المحافظات الأردنية (مأدبا، عجلون، الكرك..) نموذجاً متقدماً تجاوز منذ زمن بعيد القيم السّلبية التي تفت في عضد التماسك المجمتعي.
وبعد؛ فتبقى بعض الأسئلة التي تنتظر الكثير من الإجابات:
* إلى أيّ حد تساعدنا هذه الأوراق المنثورة على جسد الفضاء المفتوح في الصحف اليومية في صياغة إستراتيجية ملائمة لتقديم مناهج فاعلة ومؤثرة؟! هل قدمت هذه "المقالات" توصيات دقيقة، واضحة، شاملة، قابلة للتنفيذ؟!
* وهل الانفتاح على الآخر، وعقد الشراكة معه في بناء المشترك الإنساني.. يوجب علينا أن نكون على قطيعة مع "الدين" و"التراث" و"القيم"؟!

اضافة اعلان