في الطريق إلى الجحيم!

 يحدث أحيانا، وفي عز الاستماتة لتحقيق هدف ما، وبغض النظر عن مدى صفاء النوايا ونبلها، يحدث في طريق الوصول إلى النتائج المبتغاة، أن نفقد جوهر ذلك الهدف،  بفعل "حلاوة الروح" كما نقول في اللهجة الدارجة، في توصيف الذبيح المشرف على نصل السكين، حيث تنتابه طاقه جسدية وشحنة عاطفية هائلة، كردة فعل طبيعية، تفرضها غريزة البقاء، فتظل الروح متشبثة بالحياة حتى النفس الأخير،  في فعل مقاومة فطري، حيث السكين تواصل غورها عميقا في تمزيق الأوصال!

اضافة اعلان

في المسيرة التي دعت اليها النقابات المهنية الاحد المنصرم، توفرت النوايا النبيلة، وتوفر الغضب والقهر والغيرة، على دماء الغزاويين، المستباحة بإشراف ورعاية أميركية حثيثة، وهذا ما لن يختلف عليه عاقلان، غير أن المثل الشهير يفيد: بأن  "الطريق إلى الجحيم معبد بالنوايا الحسنة"!، في دلالة بليغة على قصور النوايا الحسنة منفردة عن إيصال مركب مشرف على الغرق لأي شاطئ أمان.

 في المسافة  القصيرة التي تفصل ما بين مجمع  النقابات المهنية في الشميساني ومبنى مجلس الأمة  في العبدلي، حيث مجلس النواب منهمك في جلسة مسائية ليست عاصفة.. في تلك المسافة القليلة التي لا تتجاوز ثلاثة كيلو مترات في اكثر الاحوال، ورغم الصراخ الكثير والغضب العارم، حضرت غزة الجرح الغائر على استحياء، كذلك حضرت أشلاء الطفولة الممزقة كصورة جانبية في المشهد الدموي الراهن حين حملت إحدى المتظاهرات دمية على هيئة رضيع قتيل، ليس مهما إن كان حمساويا أو فتحاويا لأنه ذبيح الصمت العالمي في جميع الأحوال.  

استوقفت الدمية الذبيحة كاميرات الفضائيات العربية والعالمية، حضرت عذابات فلسطين الأرض والناس في حدها الأدنى، وبدت الحناجر قاصرة عن توحيد نبرة الصراخ كي يصبح أشد وقعا، وذلك في غمرة التراشق بالشعارات المضادة.

 احتشدت الآلاف المؤلفة، في مساء عماني بارد، رغم نبل النوايا التي جمعت هذه الحشود  لغايات إيصال صوت العمانيين في فورة دمهم غضبا على  استباحة الأرض والأرواح، غير أن المشهد لم يكن شديد الإشراق، إذ كان جليا حجم التنافر بين المشاركين في مسيرة الغضب النقابي والحزبي،  حيث سيطر واكتسح حضور ممثلي جبهة العمل الإسلامي المشهود لهم بحسن تنظيم فعاليات كهذه، في مقابل حضور يساري متواضع خجول، وغياب شبه كامل لحضور رسمي فاعل، رغم أن الموقفين - الرسمي والشعبي- لا يتعارضان في هذا الشأن.  وقد تمت المسيرة المرخصة وفق ترتيب وتنظيم مع الجهات الأمنية التي عملت على تذليل صعوبات المرور أمام المتظاهرين.

بثت الفضائيات ووكالات الأنباء لقطات عن المسيرة التي ضمت الآلاف، وعكست بصورة مؤلمة قاسية حجم التناقض والخلاف في الشارع المنهمك في خلافاته الإيديولوجية، غير المدرك تماما لتوالي ضربات الجلاد الموحّدة رغم تعددها !

غنى كل من ممثلي الفصائل على ليلاه، ووجه نيران لومه وتخوينه إلى الطرف الآخر، ورفعت شعارات لا تساهم إلا في مزيد من التمزيق، متناسين أننا في الجرح وفي الهم وفي القهر شركاء بالتضامن والتكافل، وأن أي مظهر انشقاق لا يصب إلا مباشرة في مصلحة العدو الواحد، لكن  لشديد الأسف، لم ينجح بضعة آلاف، المفترض أنهم يمثلون الطليعة في الانضواء تحت راية الغضب الساطع ، لساعات ثلاث هي عمر المسيرة الحاشدة، في كتم أسباب الخلاف  الفكري والعقائدي، وتوحيد الحناجر ضمن صرخة احتجاج كبرى  في مواجهة آلة البطش السائرة قدما تنكيلا بصغارنا، ويبدو مثيرا للأسى والخيبة انخراط الشياه المعدة للذبح في قتال عدمي يبيح للجزار، في الاثناء،  سن سكاكينه على أقل من مهله !!

[email protected]