في الناتو: ترامب مدير مالي شعبوي

هناك تباين كبير يبرز أحيانا بين الإدارة المالية والفكر الاقتصادي الاستراتيجي، فأي مدير مالي يهمه أن يجد نهاية الشهر رصيدا يسد التكاليف ويحقق فائضا قدر الإمكان، أمّا القادة الذين يبنون مشاريع ضخمة، حضارية أو سياسية أو اقتصادية تنموية فهو يفكر بالاستثمارات بعيدة المدى. وهو ما يمكن أن يشبه مثلا مدير شركة يسعده نهاية العام أن يوزع للمساهمين نسبة أرباح عالية، ما سيسعدهم بالأموال السائلة، بينما مدير آخر يقرر أن يحول الأرباح إلى موجودات ورأسمال، مخاطراً بغضب مساهمين يريدون الربح السريع، ولكنه يسعى لشركة أقوى تكبر مستقبلا وتحققق المزيد من الاستقرار والربح. وهذه المفارقة هي تقريبا ما يلخص الجدل في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث يريد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن يقلص ما تدفعه بلاده من أموال، وأن تقوم أوروبا بدفع المزيد، ولكن دون تفكير على ما يبدو بوظيفة الحلف الأصلية ومستقبله. اضافة اعلان
الواقع أنّ مشكلة الأعباء وتوزيعها في الناتو، قديمة، فهناك دائماً مطالبة أميركية لتحمل أوروبا المزيد من تكاليف قيادة العالم، ولكن مشكلة ترامب مع الناتو الذي بدأت اجتماعاته الأربعاء، أكبر، من ذلك، فهو يتحرك بشكل منفرد في ملفات خطرة، بالنسبة للحلف، من مثل ملفات العلاقة مع روسيا، وكوريا الشمالية، وإيران، ويهرب من نقاش القضايا الأساسية، إلى الحسابات المالية، "مدغدغاً" شريحة من الناخبين الأميركيين بشكل خاص.
يبدو ترامب بعيدا عن التفكير ببلورة استراتيجية أمنية عالمية مشتركة مع أوروبا، وغير مهتم بحقيقة أنّ عدم التنسيق مع الأوروبيين يدفعهم لتطوير منظومات دفاع أوروبية ذاتية مستقلة، تهدد بتراجع مكانة الولايات المتحدة، وبتبلور سياسات أوروبية عالمية مستقلة عن الحلف وعن الولايات المتحدة. فهو لا ينتظر لقاءات ثنائية، أو جماعية، ولا يذهب مثلا لمنظمة التجارة العالمية، ليناقش الأوروبيين بأنّ ميزان العجز التجاري معهم، يجب تقليصه، وأنهم يجب أن يزيدوا مساهمتهم في تكاليف حلف الناتو، بل يقوم بذلك بمناسبة انعقاد أعمال هذا المؤتمر الدفاعي. وهو يخاطب بدل ذلك، الجمهور الأميركي العام، عبر تويتر بكلمات بالغة البساطة، فيقول "دول الناتو يجب أن تدفع أكثر، الولايات المتحدة يجب أن تدفع أقل، هذا غير عادل أبداً".  
 لا يناقش ترامب، أو على الأقل، لا يركز مثلاً على قضايا مثل إيران، التي اتخذ قراراً أحادي الجانب بوقف الاتفاق النووي، معها، والعودة للحصار عليها، دون تنسيق أو اتفاق مع حلفائه في الناتو. وعلى نحو معاكس، في حالة روسيا، فترامب سيلتقي نظيره الروسي فلاديمير بوتين، الاثنين المقبل في هلسنكي، في فنلندا، عقب لقاء الناتو، وصرّح للتلفزيونات أنه يعتقد أنّ بوتين "أسهل" من رؤساء دول الناتو وأوروبا، هذا مع أن الدول الأوروبية تفرض عقوبات على روسيا وتخشى سياستها التوسعية، في أوروبا. وحتى في حالة كوريا الشمالية، ورغم تأييد باقي دول الناتو للانفتاح الأميركي عليها، وحل ملفها النووي دبلوماسياً، فإن ترامب يتحرك منفردا.
رد الأوروبيون على ترامب، عبر دونالد تسك، رئيس المجلس الأوروبي، بالقول "لا يوجد لدى الولايات المتحدة الأميركية، ولن يوجد، حليف أفضل من الاتحاد الأوروبي". وأشار تسك "إننا ندفع على الدفاع أكثر كثيراً من روسيا والصين مجتمعتين"، وذلك في إشارة إلى كبر السوق الأوروبي، وأن ما يُدفع على التسلح والدفاع أوروبيا، أكبر مما يدفع في الصين وروسيا، في تلميح إلى أنّ ما يهم ترامب هو الإنفاق العسكري (الذي قد يعود بفائدة على الشركات الأميركية ويخفف أعباء الأمن في مناطق حول العالم). وبحسب نيويورك تايمز، يخشى مسؤولون أوروبيون، مما قد يعطيه ترامب سرا "من تحت الطاولة" من مكاسب للرئيس بوتين في لقائهما المرتقب.
بالتأكيد أن مقدار مساهمة الأوروبيين في أعباء حلف الناتو المادية أمر مهم، ولكن ترامب يحوله للقضية الأساسية، ويضرب فكرة الأمن والقرار الجماعيين للحلف بتحركه منفردا في ملفات مختلفة، ممارساً هوايته بالتوصل لاتفاقيات ثنائية (كوريا الشمالية وروسيا) أو فرضه سياسات ضاغطة (إيران) وكل ذلك بقرار منفرد، وأكثر من ذلك، يستخدم "تويتر" والإعلام الاجتماعي لتحويل قضايا سياسية كبرى لموضوع يخاطب غرائز ومصالح شريحة معينة من الناخبين، المتلهفين لمكاسب آنية.