في الوجه الآخر للانتخابات

تبدو صورة المشهد الانتخابي اليوم "سوداوية" تتشكّل أركانها من شعور الرأي العام أنّ مجلس النواب غير قادر على خلق أُفُقٍ حقيقي للتغيير السياسي أو للتعبير عن مصالح الشعب وتمثيلها، ومن ضحالة المضمون السياسي للعملية الانتخابية برمتها تحت وطأة قانون الصوت الواحد، ومن استشراء ظواهر مُعيبة ومخزية في مقدمتها ظاهرة "شراء الأصوات" التي ثبتت في تقارير إعلامية بالصوت والصورة وأصبحت سمة من سمات الانتخابات الحالية.

اضافة اعلان

لكن، على الرغم من هذه السوداوية، فإنّ هنالك العديد من الظواهر اللافتة التي تقدِّم مؤشرات إيجابية وتؤكد على أنّ نبض الحياة ما يزال يسري في المشهد السياسي، وأنّ هنالك مقاومة تتشكّل عبر وعي شعبي متصاعد يرى المشاركة السياسية باعتبارها قنطرة العبور إلى التعبير عن مصالح الناس ومطالبهم وحقوقهم داخل مؤسسات الدولة، وبالتحديد البرلمان.

فـ"خيبة الأمل" من الحياة البرلمانية التي يمكن التقاطها اليوم في الشارع، ليست سلبية بالمعنى الكامل، بخاصة أنّها تستبطن رؤية نقدية لأداء البرلمان ولتدهور مكانته وقيمته وللخلل الواضح في قانون الانتخاب، تظهر هذه الرؤية في تعليقات المواطنين وأحاديثهم وتكشف عن "القلق" الشديد تجاه مستقبل الحياة السياسية، وهو القلق الذي يمكن أن يشكِّل مُحرِّكاً في الأيام القادمة لتفاعل شعبي أكثر جرأة وفعالية وإيجابية مع البرلمان القادم، بمعنى: أن يتحوّل الشارع والصحافة والشباب والمجتمع المدني إلى أدوات حاسمة في الرقابة على البرلمان ومساءلته ودفعه إلى تقديم الحدّ الأدنى المتوقع منه، بخاصة أنّنا مقبلون على "أيام اقتصادية" حرجة ستسير فيها الدولة على حبل مشدود رفيع.

"الوعي الشعبي" الذي يتشكّل اليوم -في سياق المخاض الانتخابي- بمثابة مولود جديد على المثقفين والإعلاميين والقوى الصاعدة في المجتمع المدني التقاطه وتجذيره وعدم إهداره بعد انتهاء الانتخابات، والتفكير في أدوات تطويره وحمايته ورعايته إلى أن يكبر ويصعد ليبني هو -مستقبلاً- حاجزاً يحمي الديمقراطية ويحول دون التلاعب بمضمون الحياة السياسية والتمثيل الشعبي. وإلاّ فإنّ هذا الوعي الوليد سيذهب مع رياح الانتخابات ولن يكون البرلمان القادم سوى حلقة جديدة من حلقات تدهور الحياة النيابية.

من صور الوعي الشعبي؛ النشاط الملحوظ لجيل الشباب وملامح الحيرة التي تبدو عليهم والرغبة الشديدة بالمشاركة الفاعلة وتجاوز القيود الصارمة التي تفرضها طبيعة الانتخابات على العديد منهم، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التساؤلات والنشاطات الجماعية ومحاولة العديد تشكيل "مجموعات انتخابية" تجعل من أصواتها أكثر وزناً وأهمية، وتبني معايير موضوعية واضحة للتصويت والانتخاب. ولعل أحد تجليات ذلك النشاط ما قام به منتدى الفكر الحرّ (وهو منتدى ليبرالي يتشكل من مجموعة من الشباب الصاعد المستقل) حيث قدّم قراءة نقدية لبرامج المرشحين في بعض الدوائر وبيّن موقفه منها، وشكّل حالة من "المساءلة" الواقعية لهذه البرامج.

ومن الصور الإيجابية؛ الحملة التي تقوم بها شركة أبو محجوب مع الزميل عماد حجّاج تحت شعار "اوعى" في محاربة ظاهرة شراء الأصوات والدفع نحو تحسين جودة العملية الانتخابية، وتطويرها ووضع ميثاق شرف يمثِّل تجسيداً لأخلاقيات الانتخاب والترشيح ولحماية الوعي الشعبي من الاستسلام للمعطيات السلبية الحالية.

ومن الصور الإيجابية الدور المتميز الذي يقوم به المركز الوطني لحقوق الإنسان ونهوضه ليشكّل رقيباً حقيقياً على أداء السلطة التنفيذية وممارستها. كما أثبت المركز مصداقيته في الانتخابات البلدية فإنّه قد تعامل بجدّية وحسم كبير منذ البداية مع خطوات مراقبة الانتخابات النيابية، ومن المتوقع ألاّ يتساهل في تقريره النهائي حول نزاهة الانتخابات ومستوى الانتهاكات الموجودة. وغني عن القول أنّ تطور دور المركز وتجذيره يشكّل مستقبلاً رافعة حقيقية لحقوق الإنسان من خلال مؤسسة معتبرة تحظى بمصداقية سياسية عالية داخلياً وخارجياً.

من الصور الإيجابية -كذلك- "فتوى الانتخابات" التي أصدرها سماحة الشيخ نوح القضاة، المفتي العام للمملكة، إذ تمثِّل هذه الفتوى ميزاناً حقيقياً لموقع "السلطة الدينية" ودورها المطلوب في الحياة السياسية، ولعلَّ ما تتميّز به شخصية الشيخ نوح -تحديداً- أنّه وعلى الرغم من خدمته الطويلة في مؤسسات الدولة الدينية والسياسية إلاّ أنّه حافظ على الدوام على استقلاله ومصداقيته وحماية موقفه الفقهي والفكري من سيطرة الحكومات والمؤسسات الرسمية عليه ودفع سابقاً ثمن هذه الاستقلالية.

"فتوى الانتخابات" تُجسِّد أيضاً إرهاصات للدور المطلوب للمؤسسة الدينية، فالفتوى تجنّبت الزج بالدين في تفاصيل الانتخابات، لكنّها أكّدت على القيم الوطنية والأخلاقية التي يجب أن تحكم العملية الانتخابية وعلى الصورة العامة لمخرجاتها. ولم تقف الفتوى عند الموقف الفقهي من ظاهرة شراء الأصوات بالتحريم، بل ذهبت إلى إطلاق وصف "العار" عليها، ونفيها عن أصالة الشعب الأردني وسلوكه، من خلال ربط محكم بين الدين والمسؤولية الوطنية والأخلاقية لدى الناخب، كي يدرك المواطن تماماً أنّ انتماءه لدينه لا ينفك عن مسؤوليته المدنية والأخلاقية، ومن هنا تضمنت الفتوى كذلك توصيفاً للنائب والبرلمان المطلوب.

ومن أبرز الصور الإيجابية تلك الجدالات والمناظرات والاقتراحات التي نسمعها من المواطنين والقراء في العديد من الفعاليات الإعلامية المتعلّقة بالانتخابات، فأحد المواطنين يرفض أن يكون دور الإعلام "محايداً" في الانتخابات ويطالبه بلعب دورٍ كبير في نشر قوائم بأسماء النواب الذين تغيّبوا عن الجلسات والنوّاب الذين صوّتوا مع "قانون المطبوعات والنشر"، والنوّاب الذين تساهلوا في الدفاع عن حقوق المواطنين، وهنالك شاب في بداية سن الانتخاب يتساءل عن كيفية ممارسة حقه وأقرانه الذين بلغوا هذه السن حديثاً، ويحمل معه إحصائية بأعداد هؤلاء وبإشكالية قدرتهم على اختيار المرشّح الأفضل، وهنالك انتقاد شعبي حاد للانتهاكات التي حدثت في الانتخابات البلدية وإدانة شديدة لها..

إذا لم يكن للانتخابات الحالية إلاّ تقديم هذا الحراك فإنّه فرصة لإيجاد أرض نقف عليها في مسار الإصلاح السياسي، لكن المطلوب لما بعد الانتخابات عدم إهدار رأس المال الذي تشكّل، فدعونا نفكّر كيف نستثمر فيه بصورة خاصة في بناء سلطة "شعبية" (مدنية وإعلامية) في مراقبة كلٍّ من البرلمان والحكومة على السواء.

[email protected]