في اليمن: وجبات مُترفة لقليلين.. جوعٌ للكثيرين، ومعضلةٌ للصحفيين

امرأة في قرية الجبيرية الجبلية الفقيرة في اليمن – (المصدر)
امرأة في قرية الجبيرية الجبلية الفقيرة في اليمن – (المصدر)

ديكلان وولش - (النيويورك تايمز) 29/11/2018

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

عملت سنوات من الحصارات، والقنابل ومعدلات التضخم المحلِّقة على سحق الاقتصاد في اليمن. وتعني الدولة المسحوقة أن لا تكون هناك شبكة أمان.اضافة اعلان
نتيجة لذلك، يتجمع المستولون خارج محلات السوبر ماركت المملوءة بالبضائع؛ وتمتلئ الأسواق بالمنتجات في البلدات حيث يأكل الجياع أوراق الشجر المغلية؛ وتقع المطاعم التي تبيع الطعام الغني على مسافة بضع مئات من الياردات من عنابر الجوع الملآى باليأس، والألم، والموت.
*   *   *
صنعاء، اليمن- في مطعم في العاصمة اليمنية، صنعاء، جلب نادل أطباقاً من لحم الضأن المطهو ببطء مع أكوام من الأرز. وللحلوى، كانت الكنافة، الطبق العربي التقليدي المكون من الفطيرة الحلوة البنية-الذهبية المحشوة بالجُبن.
وبعد ساعة لاحقاً، عدتُ إلى العمل في جناح صامت في أحد المشافي، مملوء بالأطفال الذين يعانون من سوء التغذية بوجوههم ناتئة العظام مثل الهياكل العظمية، والمعلقين بين الحياة والموت بسبب العوز للمال وتناول وجبة جيدة.
إذا كان هذا التضاد قد أصابك بالصدمة باعتباره متنافراً، بل ومقيتاً، فقد بدا كذلك لي أنا، أيضاً.
عادة ما تكون مناطق الأزمات أماكن للتناقض الصارخ، لكن الهوّة بين النقيضين في اليمن غير مريحة بشكل خاص. وليست المشكلة افتقاراً إلى وجود الغذاء؛ المشكلة أن قلة من الناس هم الذين يستطيعون شراء الغذاء المتاح.
عملت سنوات من الحصارات، والقنابل ومعدلات التضخم المحلِّقة على سحق الاقتصاد في اليمن. وتعني الدولة المسحوقة أن لا تكون هناك شبكة أمان.
نتيجة لذلك، يتجمع المتسولون خارج محلات السوبر ماركت المملوءة بالبضائع؛ وتمتلئ الأسواق بالمنتجات في البلدات حيث يأكل الجياع أوراق الشجر المغلية؛ وتقع المطاعم التي تبيع الطعام الغني على مسافة بضع مئات من الياردات من عنابر الجوع الملآى باليأس، والألم، والموت.
للصحفي، يصنع هذا الواقع معضلة. فالصحفيون يسافرون مع حُزَم من العملة الصعبة، عادة بالدولارات، حتى يدفعوا للفنادق والنقل والترجمة. وربما يذهب قسم صغير من هذه النقود على الطريق إلى عائلة تعاني من الجوع. هل ينبغي أن أتوقف لحظةً، وأضع دفتر ملاحظاتي وأعرضَ المساعدة؟
وهو سؤال طرحه بعض القراء بعد أن نشرنا مقالاً في الآونة الأخيرة عن المجاعة التي تلوح في أفق اليمن.
وثمة الكثيرون الذين مسّت قلوبهم صورة قوية التقطها تايلر هيكس وأمل حسين، لفتاة مهزولة بعمر سبع سنوات، والتي جلبت تحديقتها المؤلمة الكلفة الإنسانية للحرب إلى تركيز مروِّع.
والكثيرون أيضاً أوجعتهم معرفة أن والدة أمل أعادتها -بعد وقت قصير من مغادرتنا- إلى مخيم اللاجئين الرث الذي يسمونه المنزل، حيث توفيت بعد بضعة أيام لاحقاً.
والبعض، في سورة من الوجع، حولوا التركيز إلينا نحن.
لماذا لم نفعل شيئاً لإنقاذ حياة أمل، أرادوا أن يعرفوا. هل نلتقط الصورة فقط، ونقوم بإجراء المقابلة ونمضي؟ أما كان بوسعنا أن نتأكد بطريقة ما من أن تحصل عائلتها على المساعدة؟
"تستطيعون أن تلتقطوا الصورة (وأن) تقدموا المساعدة أيضاً"، قالت امرأة على تويتر. "أحد الأمرين لا يتعارض مع الآخر".
تردد صدى السؤال. الصحفيون مدربون على أن يقفوا شهوداً وأن يؤدوا شهادتهم؛ وعمال الإغاثة والأطباء لديهم مهمة تقديم المساعدة للناس.
أما التبرع بالنقود، أو الأشكال الأخرى من المساعدة، فيمكن أن تكون مقرونة بتعقيدات أخلاقية ومعنوية وعملية. هل من العدل أن يتم إفراد شخص واحد أو عائلة واحدة وتخصيصهم بالمساعدة؟ ماذا لو أنهم ينمقون قصصهم ويروونها للأجنبي التالي الذي يأتي، معتقدين أنهم سيحصلون بذلك على المزيد من النقود؟
وبالإضافة إلى ذلك، لدينا عمل يجب أن نؤديه.
يأخذنا الأطباء في جولة، وفي بعض الأحيان ينتهي بنا المطاف ونحن نتصرف مثلهم -نتفحص الأطراف الهزيلة مثل العيدان والجِلد الرخو بانفصال سريري، ونجدول الأرقام عن الوزن والعمر؛ ونستمع بينما تروي العائلات مآسيها بهدوء مدهش. ويُناقَش احتمال الموت نفسه. ثم نهز رؤوسنا متقمصين الحكمة، وندلي بملاحظة عابرة، ونمضي.
ولكن، في حين أننا ربما نحاول محاكاة حجر، فإننا لسنا حجارة، وفي كل يوم في اليمن يخبرني أحد ما بشيء يجعل غصة تصعد في حلقي.
في العادة يكون الأمر تفصيلاً دنيوياً بسيطاً، مثل الافتقار إلى بضعة دولارات لأخذ طفل محتضَر إلى المستشفى. اليمن، كما لا بد أنكم تدركون، هو بلد يموت فيه الناس بسبب الافتقار إلى أجرة تاكسي.
وعلى اليمنيين أن يتلمسوا طريقهم عبر مثل هذا المجاز، أيضاً.
فبينما يُحتضَر البعض، يواصل آخرون العيشَ قدُماً. ذات ليلة عدنا إلى فندقنا في حجة، وهي بلدة محاطة بالتلال الصخرية في محافظة كانت قد دمرتها غارات قوات التحالف الجوية. وبينما أستلقي في السرير، روعني صوت انفجار عظيم ثم انبجاس ضوء ملأ السماء -ليس قنبلة، وإنما ألعاباً نارية.
منذ بدء الحرب، ارتفع معدل الزواج في اليمن. وهكذا، في هذه البلدة حيث كان الرُّضع المصابون بسوء التغذية يهلكون في مستشفى المدينة، كان آخرون يرفصون ويحتفلون كلَّ الليل.
لكن الارتفاع في معدل الزيجات، كما تبين، كان آلية للبقاء.
من كل أنحاء الطيف الاجتماعي، ينزلق اليمنيون هابطين على سلم الفقر. وحيث كانت أم تشتري ذات يوم كيس أرز لتطعم عائلتها، فإنها ربما تستطيع الآن تحمل كلفة شراء كمية صغيرة منه فحسب. وتجلب يد الابنة المتزوجة مهر العروس، وبذلك يمكن أن تكون الزيجات مصدراً لدخل العائلات الممتدة.
على نحو مقلق، تكون معظم الزوجات من الأطفال. ووفقاً لليونيسيف، فإن ثلثي البنات اليمنيات يتزوجن الآن قبل سن الثامنة عشرة، صعوداً من نسبة 50 في المائة قبل الحرب.
بينما كنا نعبر اليمن -من ميناء الحديدة الذي خدّدته ندوب الحرب إلى الجبال التي يسيطر عليها الحوثيون- في رحلة وعرة بطول 900 ميل، رأينا مشاهدَ معاناة تفطر القلب، والتي تكشفت على خلفية الجبال المذهلة، وشاهدنا عادات تتشبث بعناد على الرغم من كل شيء.
كل يوم، تعج مراكز البلدة بالرجال الذين يشترون القات؛ تلك العشبة المخدرة التي يحبها اليمنيون. وتشكل أسواق القات حدثاً إجتماعياً. هناك يتجمع الرجال، بعضهم ببنادق معلقة على أكتافهم، ليتبادلوا الأخبار، ويقابلوا الأصدقاء ويستعدوا لمضغة ما بعد الظهر.
والنساء في العباءات السود يتواجدن بينهم؛ وفي أحد الأماكن، تحول جدال غاضب إلى عراك بالأيدي. وحتى بينما تعضُّ المجاعة، يبقى البعض مترددين في التخفيف من عادتهم في مضغ القات.
في إحدى العيادات الصحية، وقف إبراهيم علي محمد جنيد، 60 عاماً، الأب القلق فوق رأس ابنه المريض، أحمد، المصاب بسوء التغذية والذي لم يتجاوز عمره خمسة أشهر، إلى جانب زوجته زهرة علي أحمد، 25 عاماً، وكان إبراهيم يمضغ كتلة من القات، والتي تركت بقعة خضراء على أسنانه وشفتيه.
أعرب جنيد عن أسفه لأن ابنه لم يجد ما يكفي ليأكله، مضيفاً أن لديه الكثير من الأفواه التي ينبغي أن يطعمها؛ فقد تزوج مرتين، وهو أب لثلاثة عشر ابناً وابنة.
ربما يكون من الصعب فهم قيمة ممارسات مثل مضغ القات في مثل هذه الأوقات المضطربة. لكنها تشكل، بالنسبة للرجال مثل السيد جنيد، جزءاً لا يتجزأ من يومهم. وهي علامة على صمود مجتمع قديم، وواحدة من أقدم الحضارات في الشرق الأوسط.
يقول تيري دوراند، وهو عامل إغاثة يعمل في اليمن منذ ثمانينيات القرن الماضي، والذي يدير الآن مستشفى منظمة "أطباء بلا حدود" في موكا: "الناس يقولون إن اليمن في حالة من الفوضى، لكنه ليس كذلك. ما تزال هناك هيكلية".
ويضيف: "إنك لا تستطيع أن تكتب ذلك في ثلاثة أسطر في صحيفتك أو أن تصفه في ثلاث دقائق على شاشة التلفاز. هذا البلد له هيكلية تتكون من العائلة، والقبيلة، والتقاليد -وعلى الرغم من كل شيء، ما تزال هذه البنى موجودة، وهي قوية".
مع ذلك، يتعرض المجتمع اليمني للتدمير بسبب الحرب. وقد قتلت الغارات الجوية الآلاف من المدنيين، وشردت آلافاً آخرين. لكن الحرب، بالنسبة لمعظم اليمنيين، تقصف حيواتهم بطرق أهدأ صوتاً وأكثر مكراً.
القنابل تنسف الجسور والمصانع، وتقتل الوظائف، وتتسبب بانهيار العملة وتحليق الأسعار، وتجبر العائلات على التوقف عن أكل اللحوم، ثم الخضراوات. وقريباً، سيكون الناس معتمدين على المساعدات الغذائية الدولية، أو أنهم سيلجؤون، في أسوأ الحالات، إلى تناول وجبات من أوراق الشجر المغلية.
والأشياء الصغيرة، وإنما الحيوية، مثل أجرة سيارة أجرة، تصبح بعيدة المنال.
بينما كنا نغادر مبتعدين بالسيارة عن المستشفى الصغير في أسلم؛ حيث كانت أمل حسين تتلقى العلاج، مررنا بزوجين شابين يشيران للسيارات من أجل الركوب على جانب الطريق. كانا يحملان طفلاً رضيعاً صغيراً. وقفنا وعرضنا عليهما توصيلة.
انحشرا في مقعد الراكب الأمامي -الأب، خليل هادي، محجوباً بالعباءة السوداء لزوجته، هناء، التي حملت ابنتهما الضعيفة بعمر 9 أشهر، وجدان، بعد أن أُخِرجت الصغيرة للتوّ من جناح حالات سوء التغذية في المستشفى.
كانت قصتهما نمطية. تعرَّض منزلهما بجوار الحدود السعودية للقصف والتدمير، ولذلك استأجرا غرفة في منزل بجوار أسلَم. وحاول هادي كسب النقود من سياقة مركبة أجرة تحركها دراجة نارية، ومن البحث عن الخشب ليبيعه في السوق.
لكن ذلك لم يكن كافياً، وعندما حاول العودة إلى بلدته الأصلية، أخبره الجنود الحوثيون أن المنطقة أصبحت منطقة عسكرية. واختُزِلت حمية الزوجين الغذائية إلى الخبز، والشاي، والحلص، نوع الكرمة التي تنمو محلياً في اليمن. وكانت زوجته في الشهر الرابع من حملها بطفلهما الثاني.
لم يكن هادي يبحث عن الشفقة؛ كان الكثير من الناس الآخرين يعانون من المتاعب نفسها، كما قال. "سوف أفعل أي شيء لكي أجني بعض النقود. الوضع صعب جداً".
عند تقاطع في الطريق، ترجل الزوجان، وقدمها شكرهما وشرعا في السير مبتعدَين. وبينما أنقب في جيبي، ناديتهما.
سحبت حزمة من أوراق النقد اليمنية -نحو 15 دولاراً- وضغطتها في راحة يده. وبدت تلك النقود غير مجدية، في المخطط الأكبر للأشياء. ما الذي يمكن أن تشتريه لهم؟ بضعة أيام من المُهلة، حتى إذا فعلت؟
قبِل هادي النقود مع ابتسامة كريمة. وبينما انطلقنا مبتعدين، رأيت الزوجين يسيران متمهلين على طريق مُترب، في اتجاه ملجئهما، وقد احتضنت هناء ابنتهما بقوة.

*نشر هذا التقرير تحت عنوان: In Yemen, Lavish Meals for Few, Starvation for Many and a Dilemma for Reporters