في انتظار العيد

انتظرنا هذا العيد بلهفة أيضاً، ولأسباب جديدة. أولاً، كان هذا الرمضان صعبا؛ أيامه دبّت طويلة وقائظة إلى مهجع الشمس القصي؛ وموائده واجتماعياته أرهقت الأجساد وأنهكت الميزانيات؛ وأثمان المستلزمات تفوقت على نفسها في التحليق فوق التحليق. وثمة سبب آخر لانتظار هذا العيد بشغف؛ صرف بعض المؤسسات رواتب مستخدميها قبل نهاية الشهر بعد أن أملقوا ونضب معينهم. وقد تخفف الناس قليلا، وتغافلوا قصدا عن التفكير في كيفية تصريف شؤونهم 40 يوما حتى الراتب القادم، بعد أن يأتي العيد على جُلّ الراتب المبكر. وكالعادة، لم يحررنا ضيق الحال والضنك من ثقافة الاستهلاك التي أصبحت عندنا ماركة اجتماعية مسجلة، وكأننا لسنا فرائس أزمة اقتصادية داخلية ولا خارجية. وقد ورثنا فكرة تأجيل التفكير في دفع الحساب إلى البيدر.اضافة اعلان
وكنّا ننتظر العيد من قبل أيضا، ولأسباب مشروطة بزمنها. الصغار كانوا يحبون فرحته الأصيلة، والملابس الجديدة ولو كانت الرخيصة، وقروش العيديات التي كانت تكفي، والألعاب البسيطة. والكلّ، كباراً وصغاراً، كانوا يتخففون فيه من العمل والمدرسة، ويغتنمون فسحته لوصل الأقارب والأصدقاء والجيران بنيّة شوق، وليس مجاملة. وكانت كلفة العيد أيضاً مقبولة، حتى مع بساطة حال الناس؛ الكعك المنزلي، والهدايا التي يمكن تدويرها من علب شوكولاته "سيلفانا" وحلوى "ناشد إخوان". وباختصار: كنا ننتظرعيداً له سمات العيد التي ضاع معظمها على الطريق.
وقد جاء العيد العادي المبرمج على "الرزنامة" في موعده الذي لا محيد عنه. و"العيدُ لغة، من العَود، وهو الرجوع بعد غياب". وقيل: "اشتقاقه من العادة، لأنهم اعتادوه". لكن الاعتياد يجلب الملل، إلا إذا آب الغائب بهديّة وأتحفنا بجديد. وقد عُدت أيضاً إلى ما كنت قد كتبته في هذه الزاوية في العيد الفائت، فوجدت: "في أماكن عربية... سيمرُّ العيد ولا يتوقّف عند المكلومين، ممن يواجهون القتل والقمع اليومي، وينزفون ليُطلعوا عيدهم، ولو متأخراً. وفي أماكن (أخرى)، يترقّب مواطنونا شيئاً على قلق، ويأملون. ومن يدري، فقد تذهب أخيراً مسببّات ذهاب البهاء عن الاحتفال، وتصبح جزءا من الذاكرة". عَودٌ آخر على معتاد، يجلب الضجر. إذ، ما الذي تغيّر؟
في الواقع، يقولون مثلاً: "الشباب شباب القلب"، لأن المسألة تتعلق بالإحساس الجوهري أكثر من العرَض الظاهري. وفي العيد أيضاً، يقولون العبارة البدهية التي أحبها: "كل يوم على السعيد، عيد". ولا تعني الممارسة الثقافية المفروضة بحكم تكرار العَود والاعتياد عموم الفرح الجوهري، لأنه إذا تفكك المشروع الجمعي، ثقُل الحِمل الشخصي وترتب على كلٍّ أن يجترح عيده الخاص وأسبابه للفرح. ولذلك، لا ينزل الناس لدينا إلى ساحات المدن للاحتفال بالعيد معاً، كما يفعل الغربيون في ميادين مدريد ولندن ليلة رأس السنة. ولستُ أتحدّث هنا عن المعنى العميق لعيد الفطر في ثقافتنا، والذي يعرض الفرح الدنيوي بأداء الفريضة كرمز مختزل لفرح مثالي أزلي مؤجل إلى الحياة الأخرى، وإنّما أعني المعنى الأقرب المتصل بالبحث عن سبب دنيوي للاحتفال.
الانكفاء، يضيّق مساحة الفرح ويجعل تعريف العيد أكثر شخصية، كما أعتقد. ثمة شخص عيده أوبة غائب عزيز طال انتظاره؛ وآخر عيده تعافي مريضٍ له عزّ شفاؤه؛ وثالث يعدُّ الأيام حتى يجتمع بحبيب مستحيل، فيحل عيده. وهناك تعريفات أكثر شمولية، ولو أنها تظل خصوصية. هناك الفلسطيني الذي اجترح تعريفاً جامعاً مانعاً لعيد شعب كامل، فقال: "عيدنا عودتنا". وما يزال هؤلاء الملايين يرددون الشعار وينتظرون العيد البعيد. والآن، تتشكل أيضاً تعريفات مشابهة أقل شخصية لأعياد منتظرة؛ رحيل طاغية مقيم؛ هبوب رياح الحرية؛ ذبول الظلم وإزهار العدل؛ الصحو على ابتسامة، والنعاس على أمل.
اليوم، سيمر العيد على عادته في بلدنا الذي لم يغيّر عاداته كثيراً. سوف يُتم الناس جولاتهم السنوية المكرورة حرفياً، إلا في حدود التغيير القسري بوفاة قريب أو زواج آخر. سوف يشربون القهوة المرة ويتبادلون المجاملات، ويعودون للاستراحة من عبء الواجب. سوف يشرعون في احتساب ما تبقى في محافظهم للأربعين يوماً القادمة. وسيعكفون، حتى بعد ذلك، على انتظار العيد. وفي أماكن أخرى سكنها الرعب والخوف، سيغير العيد عاداته وطريقه ويغيب، وسيُبقي الناس أيضاً على قلق الانتظار.

[email protected]