في تفسير التمترس الفكري وصعوبة الانتقال بين اليمين واليسار

يولد كل طفل/ة كصفحة بيضاء تُكتب عليها فيما بعد أسرته ومدرسته ومجتمعه لغته ودينه ومذهبه أو معتقداته أو أيديولوجيته أو فكره، فكل طفل/ة يولد على الفطرة كما يقول سيدنا علي بن أبي طالب ويعيد جون لوك الفيلسوف الإنجليزي بعده قوله بمئات السنين. فالأسرة وقد ولد الطفل/ة تبدأ بتشريبه وإرضاعه وتشكيله حسب ما ذكرتْ، ثم تقوم المدرسة والمجتمع بتعزيزه. وتتحول هذه الكتابة إلى طبيعة ثانية للطفل/ة أو الرجل أو المرأة فيما بعد. وربما تصبح كالإسمنت المسلح أو أقوى في المجتمعات المغلقة. وهكذا يتحول المكتوب إلى امتلاك أو ملكية خاصة يتمسك بها الرجل أو المرأة وتصبح عزيزة عليه فيظل قابضاً عليها. وقد يصل التعصب لها عند بعضهم إلى القتل أو في الموت في سبيلها. وعندما يحاول آخر او أخرى إقناعه بغيرها أو بتعديلها فإنه ينتفض كالنمر في الدفاع عنها ويجابهه بالرفض الشديد. أي ينطلق حارس يقاوم ذلك. وفي أحسن الأحوال قد يقارن بين الربح أو المكسب والخسارة الناجمين عن التغيير. لقد أثبتت البحوث التي أجراها عدد لا يحصى من علماء الاجتماع في أميركا وغيرها أنه قلما يحدث تغيير أو نقله من اليسار إلى اليمين أو العكس إن لم يكن الربح من الانتقال أكبر من ضعفين وأكثر من الخسارة، لأن التغيير مكلف نفسياً واجتماعياً وسمعةً، وقد يكون مكلفاً مادياً أيضاً. ولعلّ نتائج البحوث هذه تفسر لنا انتقال (س) من المعارضة الشديدة للنظام إلى الموالاة، أو إلى العكس. كما أنه يفسّر انقلاب صحفيين وإعلاميين من اليسار إلى اليمين أو إلى العكس مقابل مكاسب معينة يحصلون عليها. وقد أذهب بعيداً فأفسر به الجاسوسية، وحتى مواقف الحكومات والنظم السياسية، بمعنى أن لكل واحد/ة منا منها سعر كما يقول مثل ألماني لينقلب على عقبيه. وبكلمات أخرى فإن التغيير في الفكر أو في الموقف، او في السلوك لن يحدث إذا كان الربح أو المكسب بسيطاً، لأن الشعور بالخسارة الناجمة عن ذلك أسرع وضوحاً من رؤية الربح (Cost- benefit time gap ). وبما أن الإنسان يمقت الخسارة بطبعه (Loss aversion)، فإن يخسر الواحد/ة منا عشرة دنانير أصعب عليه أو أشد ضيقاً في النفس عليه من مسرة كسب عشرة دنانير. كما أنه يمقت المغامرة (Risk Avers) وبخاصة في لحظة اللايقين الذي يشعر به مبدئياً إذا غير معتقده أو فكره أو موقفه أو سلوكه. وتؤدي هذه الحالة من اللايقين إلى ازدياد تمسك الواحد/ة بفكره أو بموفقه أو بسلوكه. ومن ثم فإنك لتغير فكر أو موقف أو سلوك الواحد/ة من الناس، يجب أن تبرز لهما الخسارة الكبيرة الناجمة عن الرفض، والربح المضاعف الناجم عن التغيير. وأعلم ان كثيراً من الناس وربما سائر الناس يتمسكون بفكرهم الذين نشأوا عليه أو تحولوا في فترة ما إليه، على الرّغم من الدليل ضده لأن عدم الاقتناع أو عدم قبول الدليل – أي رفضه- أقل كلفة من قبوله. إن عدم الاقتناع لا يحتاج إلى جهد يذكر. إنه غير مكلف، بينما القبول مكلف. وبعبارة أخرى فإنه في الاختيار بين الفعل واللافعل فإنه جملة الناس تختار اللافعل بتأثير قوة الاستمرار، فحسب قانون نيوتن كل جسم متحرك يبقى متحركاً ما لم توقفه قوة، وكل جسم ساكن يبقى ساكناً ما لم تحركه قوة. والمعنى واضح، وهو ان جملة الناس يفضلون الوضع الفكري الراهن (Status qou) أو السكون: « قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون» (22/43) على وضع فكري جديد أو على الحركة. وكذلك قد تأتي محاولة تغيير فكرهم برد فعل عكسي شديد. وهو ما يفسر تمترس كل من اليمين واليسار بفكره أو بموقفه أو بسلوكه. في اميركا – مثلاً– يوجد نفر كثير من اليمين يرفضون تطعيم أطفالهم باللقاحات اللازمة لاعتقادهم أن التطعيم بها يؤدي إلى مرض التوحد على الرغم من الادلة الحاسمة التي تثبت عدم صحة ذلك. وهم يرفضون الآن التطعيم ضد فيروس كورونا لأنه نتاج مؤامرة سياسية من اليسار. لاستدراج المتطرف أو المتشدد أو المتعصب نحو التغيير يجب البحث عن نقطة مشتركة معه والانطلاق منها، وإن استغرق ذلك وقتاً، أي بالتدريج من الصغير إلى الكبير. او تحديه بقيمه ونصوصه غير الملتزم بها بسلوكه، أو بحرق السفن كما فعلت الأديان في بداياتها: إما كذا او كذا. لقد وجدت بحوث علماء الاجتماع في موضوع التغيير عن وجود منطقتين عند كل إنسان: منطقة القبول (Zone of acceptance) حيث يوافق على وجهات النظر أو الأفكار التي تقع في إطارها، ومنطقة الرفض (Region of rejection) حيث يرفضها إن لم تقع في إطارها. يبدو أن انحياز الناس لفكرهم أو لمواقفهم أو لسلوكهم متأصل فيهم لدرجة أن الواحد/ة منهم (يبرسس) (Processing) المعلومات أو الحقائق الوافدة عليه وإن كانت ثابتة لتتفق مع فكره او وجهة نظره أو سلوكه (Confirm bias).اضافة اعلان