في ذكرى الخامس من حزيران: ضياع الممكن في سبيل المستحيل (3)

وزير الحرب الاسرائيلي موشي دايان (وسط) يدنس باقدامه القدس الشريف بعد احتلالها في 1967 (ارشيفية)
وزير الحرب الاسرائيلي موشي دايان (وسط) يدنس باقدامه القدس الشريف بعد احتلالها في 1967 (ارشيفية)

بقلم: الفرد عصفور

العاقل من عرف الخطر فدفعه بقوة أو بحيلة؛ اما من بقي غير مستعد لحرب، أو غير مستعد لصلح، فهو الذي ينتظر ساعة خروج روحه من جسده.اضافة اعلان
عبدالله الأول، التكملة للمذكرات، الجزء الثالث ص 242.

يقتضي التعامل مع قضية مثل القضية الفلسطينية قدرا كبيرا من المرونة والدينامية القادرة على التكيف مع متطلبات العصر. كل ما تم حتى الآن لم يأت بالحل الحقيقي بل بمثابة الدواء المسكن أو الوسيلة التي لا تفي بالغرض المنشود.
طوال المدة من العام 1917 (وعد بلفور) وحتى العام 1948 (إعلان قيام الدولة الإسرائيلية) كان الكل يعلم علم اليقين بأن دولة لليهود ستقام على ارض فلسطين. وأن أحدا لن يقدر على رد ذلك أو منعه أو ايقافه.
الدول العربية جميعا بما فيها مصر والسعودية كانت على يقين بأن أقصى ما يمكن القيام به هو تقسيم فلسطين بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي.
هذا العلم الذي يصل إلى حد اليقين لم يكن خيانة ولا تقصيرا ولكن فهما ووعيا بالظروف الدولية التي كانت سائدة والتي سادت من قبل وأدت إلى بدء مسار اقامة الدولة اليهودية.
كل السياسيين العرب والفلسطينيين كانوا موقنين انه لا يمكن وقف هذا الزحف الصهيوني بعد أن كان قد ترسخ في العقلية الأميركية والأوروبية أن لليهود الحق في اقامة الدولة وأن القوى الكبرى ستعمل على تحقيق ذلك ولو بالقوة المسلحة.
قليلون جدا كانوا يتمتعون بالعقلانية الكافية لرؤية المستقبل ورؤية ما ستؤول اليه الاحداث. هؤلاء فقط كانت لديهم الحكمة والجرأة ليعلنوا آراءهم ومواقفهم بشجاعة من اجل حفظ الحقوق وحقن الدماء بدون تفريط بهذه الحقوق أو تلك الدماء.
من هؤلاء، الملك فيصل الأول.    عندما اقام فيصل الأول المملكة العربية السورية، ونتيجة للوعي بالظروف الدولية السائدة، كان مستعدا ان يقبل بحكم ذاتي لليهود في بعض مناطق فلسطين ضمن تلك المملكة، تحفظ فيه حقوقهم كأقلية (اذ لم يكن عددهم ليصل الى 65 ألفا) وتصان فيه حقوق الاغلبية العربية (التي كان تعدادها آنذاك خمسمائة ألف).
كان موقف فيصل واضحا فيما عرف باتفاقية فيصل وايزمن العام 1919. فقد نصت الاتفاقية على احترام حقوق الاقلية اليهودية في فلسطين. لكن فيصل اشترط تحقيق ذلك بتحقيق الاهداف العربية في الوحدة والاستقلال ضمن مملكة عربية يكون هو على رأسها.
وبعد اجبار فيصل على ترك سورية ومجيء عبدالله بن الحسين في محاولة لاسترداد عرش اخيه، أدرك بحكمته وحنكته ما تخطط له القوى الكبرى. فكانت مطالبه الاولية اقامة دولة عربية تشمل الأردن وفلسطين بعد ان تم سلخ سورية الشمالية ولبنان ضمن الانتداب الفرنسي، ويكون لليهود فيها حكم ذاتي. ولكن القوى الكبرى رفضت حتى مجرد النظر في الاقتراح.
كانت تلك المطالب أو الطموحات بداية عقلانية لحل مشكلة اليهود المضطهدين في أوروبا، ومن ثم حفظ كيان فلسطين. لقد خفت وتيرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين في فترة ما بين الحربين إلى أن نشطت مجددا بظهور هتلر على الساحة السياسية الدولية. فهل كان يجب التضحية بفلسطين من اجل حل مشكلة اليهود؟
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بات واضحا أن الدولة اليهودية قائمة لا محالة. وكان الامر مجرد مسألة وقت وانتظار اللحظة المناسبة.
لقد لعبت المصالح الشخصية والطموحات غير المشروعة لبعض القادة العرب وبعض القادة الفلسطينيين دورا سلبيا في تضييع الحقوق الفلسطينية وإضاعة فرص الحل السلمي التي يمكن لها لو تمت ان توفر الكثير من الدماء والأرواح والثروات.
وفي الوقت الذي كانت فيه الاصوات العاقلة تخرج خافتة ضعيفة وخجولة كانت الاصوات الغوغائية عالية وصاخبة، ضجيجها يملأ الافاق ويجذب العواطف، كالسراب يحسبه الظمآن ماء.
كان الملك عبدالله الأول واعيا لما يحيط به من ظروف دولية لا تسمح بأي حل عسكري للوجود اليهودي في فلسطين. لم يكن عبدالله الأول يقبل بالوجود اليهودي في فلسطين لو كان يقدر ان ينهيه بالقوة وهو الذي يعلم ان القوة إذا ما وجدت يمكنها ان تحقق نتائج مهمة كما حدث عند اخراج الاتراك من الحجاز.
في مرحلة مبكرة وخلال الحرب العالمية الثانية، وجه عبدالله الأول مذكرة سياسية إلى المستر كيزي وزير الدولة البريطاني في القاهرة بتاريخ 17 آذار 1943 موضوعها الوحدة السورية والاتحاد العربي.
في تلك المذكرة، يطالب عبدالله الأول الحلفاء "بتأييد استقلال سورية بحدودها الطبيعية واعتبار وحدتها القومية والجغرافية اساسا لنظام الحكم فيها".  وفي الفقرة ج من المادة 3 جاء ما يلي: "يكون لكل من فلسطين في بعض مناطقها ولبنان القديمة ادارة خاصة بمقتضى الدستور يلاحظ في الأولى منهما حفظ حقوق الاقلية اليهودية ومركز الاماكن المقدسة الخاص وفي الثانية صيانة امتيازات لبنان القديم" . وفي البند د نص صريح لإلغاء وعد بلفور "لعدم موافقة العرب عليه وهم اصحاب البلاد الشرعيون او يفسر تفسيرا يزيل مخاوف العالمين العربي والإسلامي فيكتفى بالوضع الراهن وهو نسبة الثلث الى الثلثين وتمنع الهجرة اليهودية".
وفي المذكرة نفسها، طرح عبدالله الأول مشروعا ثانيا في حال تعذر نجاح المشروع الأول. والمشروع الثاني شبيه بالأول من حيث موضوع فلسطين والأقلية اليهودية فيها. ففي المشروع الثاني يبقى لبنان وفلسطين خارج الدولة السورية الجديدة على ان تنضما اليه لاحقا وفق شروط خاصة. ومن الشروط الخاصة بانضمام فلسطين الى الاتحاد قيام حكومة دستورية في فلسطين تراعى فيها المركز الخاص للاماكن المقدسة، وإقامة حكم ذاتي لليهود. ويشترط لإقرار العرب هذه المزايا للاقلية اليهودية في فلسطين "إعلان الهيئة اليهودية المسؤولة موافقة اليهود نهائيا على هذا الحل بإشعار الحكومة البريطانية ذلك" .
فلو تحقق ذلك الحلم بإقامة الوحدة السورية في تلك السنة وبتلك الشروط فهل نكون في وضعنا الحالي؟
لقد كان كثيرون من الفلسطينيين يرون حل مشكلتهم يتمثل في اقامة دولة اتحادية يكون عبدالله الأول على رأسها. فقد نقل
بهاء الدين طوقان وهو من رجالات فلسطين في رسالة إلى الديوان الأميري العام 1939 عن فخري بك النشاشيبي قوله انه "لا يناسب فلسطين غير النظام الملكي وعلى رأسه سمو الأمير عبدالله" 
كثيرون في ذلك الوقت رفضوا موقف عبدالله الأول وحسبوه اطماعا في غير محلها. وكان ردهم النقد والتجريح والاتهام. لم يكن اولهم الحاج أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا لفلسطين، ولم يكن اخرهم عبد الحميد سعيد الرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين العالمية رئيس اللجنة العليا المصرية للدفاع عن فلسطين.
لقد انطلق عبدالله الأول في مقترحاته لحل المشكلة الفلسطينية من منطلق ان دوام الحالة الراهنة هي الويل لفلسطين وللعرب. وقال مخاطبا عوني عبد الهادي في رسالة اليه مؤرخة في 24 أيار 1938 انه مستعد لسحب اقتراحه إذا "اقنعتني بان في دوام الحالة الراهنة ما يردع اليهود عن شرقي الأردن بعد فلسطين ... ولست بالذي فرط بشبر من ارض او بحق من الحقوق. فلو كان في السياسة التي تعقبتها العرب منذ عشرين عاما من تأثير لما امتلأت فلسطين اليوم بما يقارب النصف مليون من اليهود ... وهذه فلسطين فاستعدوا لصلاة الجنازة عليها وقد تركت من دون مدبر أو مشير. وان علي واجبا انا قائم به ولا استثني شيئا يردعني عن القيام به الا اقناعي بان الحالة الراهنة او سواها أفضل منها"
اما في الرد على الرئيس العام للجمعية العالمية للشبان المسلمين عبد الحميد سعيد فقد كان الملك عبدالله الاول أكثر وضوحا وأكثر حسما. كان ذلك الرد الذي اتسم بالأدب الجم والكياسة المطلقة والدبلوماسية الرائعة درسا لكل اصحاب الاصوات العالية. يقول عبدالله الأول في رده المؤرخ في الخامس من حزيران العام 1938: "... ان دعائم الصهيونية في فلسطين هي ثلاث: الوعد البلفوري، والأمم الأوروبية التي قررت اخراج اليهود من بلادها مشيرة إليهم بفلسطين، ومتطرفو العرب الذين لا يقبلون أي حل مكتفين بالبكاء والعويل مستصرخين من لا يجديهم نفعا، وهذه فلسطين تلفظ النفس الاخير".  ويتابع بعد ان يستعرض احوال فلسطين: "ودواء داء فلسطين هو الاسراع في توقيف الخطر وتحديد الهجمات ثم التفكير في دفع ذلك كله دفعا تاما. وأما المطاولة فتقتل فلسطين".
في تلك الرسالة كشف عبدالله الأول عن بعض الحقائق التي ربما ما تزال غائبة عن كثيرين. أاو ربما ليست غائبة ولكن كثيرين يرفضون التصريح بها احتراما لنضال الشعب الفلسطيني. هذه الحقيقة اوضحتها الخريطة التي وضعتها لجنة سمبسون وكذلك لجنة بيل. ان ذلك يشهد "بأفصح بيان كيف ان العرب يسرفون في البيع كما يسرفون في العويل والبكاء الذي لا طائل تحته ". 
لقد ظل العرب في إدارة الصراع مع الصهيونية والإمبريالية العالمية والقوى الاستعمارية يلجأون للحلول السهلة وهي الصوت العالي والمضمون الفارغ. فما كانت تحتاجه فلسطين هو القوة الضاربة التي تنهي الوجود الاستعماري والوجود الصهيوني معا ولكن مثل تلك القوة لم تكن موجودة ولن يسمح أحد بوجودها وكان عبدالله الأول يعلم ذلك علم اليقين. فكان لديه الجرأة الكافية ليطرح الحل وهو الذي خبر الحرب والسلم من خلال قيادته لألوية الثورة العربية الكبرى. فماذا كان الحل؟
كان الحل مقترحات من اثنتي عشرة نقطة وقد أرسل الى الحكومة البريطانية العام 1938 وأعيد نشرها في كتاب الآثار الكاملة للملك عبدالله بن الحسين المنشور في بيروت العام 1973.
وخلاصة الحل تشكيل مملكة عربية موحدة من فلسطين وشرقي الأردن يتمتع فيها اليهود في مناطقهم بإدارة مختارة (ما يشبه الحكم الذاتي) ويتمثلون في برلمان الدولة بنسبة عددهم وكذلك في الحكومة. ويتبع ذلك حصر الهجرة اليهودية ووقفها نهائيا ومنع اليهود من شراء أي اراضي اضافية. وتسري هذه الحالة لمدة عشر سنوات ثمان منها تجريبية الى ان يتم اقرارها بصفة نهائية تبرم عندها معاهدة لإعلان الاستقلال.
لماذا التذكير بهذه المواقف؟ فقد اصبحت في ذمة التاريخ. ولانها كذلك لا بد من استحضارها اليوم للذكرى والعبرة فان الذكرى تنفع المؤمنين.
لقد بقي العرب يراوحون مكانهم في هذا الصراع الطويل. وظلوا في كل مرحلة يتراجعون عن وضعهم في المرحلة التي سبقت. ومنذ وعد بلفور العام 1917 إلى الان لم يكن العرب في موقف أفضل مما كانوا عليه في مرحلة سابقة.
في كل مرة كان العرب والفلسطينيون يتنازلون شيئا فشيئا عما تمسكوا به في السابق. وبالطبع ليس السبب تهاونا او استسلاما بل لان الظروف الدولية المستجدة لا تسمح بما هو أفضل. حتى الملك عبدالله الأول، الذي طرح فكرة المملكة الموحدة للأردن وفلسطين وإدارة مختارة لليهود العام 1938 عاد ليقبل بما هو اقل من ذلك العام 1943 عندما طرح فكرة الوحدة السورية وحكم ذاتي لليهود. وفي العام 1947 دعم وشجع فكرة التقسيم وهي اقل بكثير من مشروع الوحدة السورية. واستشهد وهو يدافع عن فلسطين دون ان يرى حلمه في السلام يتحقق.
وبعد النكبة العام 1948، بعد التشريد والتهجير، قبل العرب بما بقي من فلسطين بأمل استعادة الباقي في الوقت المناسب. لكن هذا الوقت المناسب لم يأت ابدا. بل على العكس، قامت اسرائيل. اعترف بها العالم. قبلت في الامم المتحدة. شنت اعتداءات وحروب على الدول العربية المجاورة.  وأخذت مزيدا من الاراضي.
ظل العرب يتعاملون مع القضية الفلسطينية من منطلق الصراخ والفعل الصوتي دون أي عمل حقيقي لبناء القوة الذاتية ودون أي نوايا حقيقية لاسترجاع فلسطين بالقوة.
كانوا كلهم يعرفون ان التحرير الكامل ضرب من المستحيل. فكانوا يفضلون اللجوء للحل السهل وهو الكلام عن التحرير بدلا من العمل الجاد من اجله. وفي الوقت الذي اشتغلت فيه اسرائيل ببناء قوتها وتدعيم مكانتها وتحصين مواقعها وتعزيز جيشها، كانت الامة العربية تتفرق وتتشرذم وتتمزق.
انشغل العرب بالانقلابات، من سورية إلى مصر إلى اليمن إلى العراق، وغيرها. وهؤلاء الانقلابيون الذين جاؤا على ظهر الدبابات واغتصبوا الحكم قاموا بتخدير شعوبهم بأنهم فعلوا ذلك من اجل فلسطين وللتعجيل بتحريرها. لكن الحقيقة كانت غير ذلك.
الحقيقة كانت ان الأنظمة العربية التي كانت تسمي نفسها أنظمة ثورية كانت تستخدم ورقة القضية الفلسطينية مثل بوليصة تأمين لبقائها في السلطة. والظلم الذي مارسته تلك الأنظمة على شعوبها أنضجت حالة صعبة أدت إلى التدخلات الأجنبية والانتفاضات الداخلية التي ركب موجتها من هو ليس أهلا لها فسالت الدماء وانتشرت الاشلاء وصارت الأمة على كف عفريت وكأنها في حالة موت سريري بانتظار خروج الروح وإعلان النهاية.