في ذكرى الخامس من حزيران: ضياع الممكن في سبيل المستحيل (2)

آلية عسكرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي تدخل الحرم القدسي خلال عدوان حزيران 1967 - (ارشيفية)
آلية عسكرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي تدخل الحرم القدسي خلال عدوان حزيران 1967 - (ارشيفية)

الفرد عصفور

بعد انتهاء الحرب طفق القادة العرب يلملمون الجراح ويبحثون عن حل يعيد إليهم ماء الوجه والكرامة التي هدرت.
بعد ان استوعبوا الضربة وذاقوا مر الهزيمة، وتفقدوا خسائرهم وعرفوا حدود مصيبتهم، تباحث هؤلاء القادة بشأن ما اسموه ازالة آثار العدوان. وكانت هذه العبارة هي كلمة السر التي تعني: اجراء مفاوضات مع إسرائيل واستعادة الاراضي وإحلال السلام في المنطقة.اضافة اعلان
الدول التي حاربت وخسرت بشرف كانت تسعى للسلام اما الانظمة التي كانت السياسة لديها لعبة وهواية فتمسكت بالشعارات ورفضت التوجه نحو السلام.
الحرب لم تحل مشكلة إسرائيل، صحيح. فلم يركع العرب ولم يتوسلوا السلام منها. لكنهم وضعوا صيغة تحفظ لهم الحد الأدنى من الكرامة. التقى الملك حسين بالرئيس عبد الناصر في القاهرة. وبعد الاجتماع سافر الحسين إلى واشنطن يحمل تفويضا من عبد الناصر بان يحاول كل ما يستطيع مع الولايات المتحدة ووعدا بعقد مؤتمر قمة عربي يمكن من خلاله وضع الأمة أمام مسؤولياتها. وقد تعهد عبد الناصر للملك حسين ان يضع كل نفوذه السياسي وراءه في أي شيء يتوصل اليه للمحافظة على عروبة الضفة الغربية وانه على استعداد "لان يخرج بنفسه علنا للدفاع عن أي اتفاق يصل اليه الحسين ويكون من شأنه ابعاد مطامع إسرائيل عن الصفة الغربية".
بعد ان تكشفت اطماع إسرائيل، ورأت الإدارة الأميركية ان إسرائيل تجاوزت الهدف الذي وضعته لها واشنطن وكان اسقاط
عبد الناصر، شرعت الدول الكبرى والأمم المتحدة السعي لحل المشكلة.
اجتمع الملك الحسين في واشنطن إلى الرئيس جونسون الذي كان رأيه انه لا بد من الوصول إلى تسوية عن طريق المفاوضات المباشرة تصل إلى صلح نهائي يحل مشكلة الشرق الاوسط من اساسها.
كان صدور قرار 242 عن مجلس الأمن محاولة اولية لإزالة اثار ذلك العدوان، وصيغة تمهيدية لتطويق الحجج التي تعتمدها إسرائيل لتبرير سلوكها العدائي المتمادي في المنطقة العربية منذ البداية. وكان من أهم المبادئ التي أكدها ذلك القرار إعلان عدم شرعية اكتساب الاراضي بقوة السلاح وبالتالي الدعوة إلى الانسحاب من جميع المناطق التي جرى احتلالها منذ الخامس من حزيران 1967. والدعوة إلى معالجة القضية الانسانية الكبرى، قضية اللاجئين.
وفي الأمم المتحدة كان رأي الأردن واضحا: على إسرائيل ان تختار بين الحصول على السلام أو الاحتفاظ بالأرض ولكنها لن تتمكن من الاحتفاظ بالاثنين معا. كان الملك الحسين يرى أن "الشرط الاساسي الكبير للسلام هو العدل، عندما يتحقق العدل في الشرق الاوسط سيتحقق السلام فيه." 
كان الأردن متفائلا يرى أن المفاوضات هي الوسيلة الوحيدة لاسترداد الارض. فكانت القمة باقتراح وإلحاح من الأردن لبحث الاوضاع بهدوء وبمعزل عن الانفعال.
كانت عبارة إزالة آثار العدوان في القرار الثاني من قرارات القمة هي التفويض. لكن القرار الثالث وان أكد على فكرة ازالة آثار العدوان الا انه تضمن ثلاث لاءات اصبحت مرادفة للقمة. لا مفاوضات مع إسرائيل، ولا صلح معها، ولا اعتراف بحقها في الوجود. ومع ان هذه اللاءات جاءت مخيبة للآمال، فإنها لم تكن عائقا أمام الجهود السياسية. فقد عرفت إسرائيل وأميركا انها كانت مجرد شعارات لإرضاء كبرياء الشارع العربي.
تمكن عبد الناصر في قمة الخرطوم من تحويل التفويض الذي سبق وان اعطاه للملك الحسين بالبحث عن حل سياسي للضفة الغربية إلى تفويض عربي واسع. فهم منها اجراء اتصالات سواء مباشرة او غير مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة بهدف استرجاع الاراضي المحتلة.  وكانت إسرائيل على استعداد للتحدث مع الملك الحسين فقط لكنه "لم يكن راغبا في الانفراد والانشقاق عن الشعوب العربية التي وقعت ضحية العدوان."
الجهود السياسية اصطدمت بعقبات كثيرة. عقبات لم تكن كلها موضوعية او معقولة. كان مفهوما ان إسرائيل التي انتصرت في الحرب واحتلت اراضي ثلاث دول عربية لم تكن مضطرة لأي سلام مع العالم العربي. كل ما كانت تريده اسرائيل هو ان يأتيها العرب مستسلمين طالبين منها الرحمة. وان كانت إسرائيل منذ العام 1948 إلى العام 1967 تدعو إلى السلام والمفاوضات فإنها بعد الحرب كانت تماطل ولا ترغب في السلام لأنها لا تريد اعادة الارض. وإذا كان الموقف الإسرائيلي المعادي معروفا ومفهوما فماذا كانت مبررات المواقف الاخرى الرافضة للجهود الاردنية التي سعت لاسترجاع الارض المحتلة؟
في العام 1991 وفي خطابه إلى الأمة عشية مؤتمر مدريد، تحدث الملك الراحل الحسين بن طلال عن وضع العرب في حلبة الصراع مع الصهيونية. يقول: "ان المدقق في الخط البياني للقضية الفلسطينية لا يمكن ان يغفل عن ملاحظة ان هذا الخط في انحدار مستمر. فما من فرصة للسلام أتيحت عبر مسار القضية الا كان الممكن تحقيقه منها اقل مما اتاحته الفرصة التي سبقتها. ابتداء من الثلاثينيات وحتى يومنا هذا بالرغم من عدالة القضية. وإذا كان لذلك من مغزى فان معناه ان احاطتنا كعرب وكفلسطينيين بالوضع الدولي والإقليمي عند كل فرصة سلام كانت اقل مما هو مطلوب لاغتنامها.  فلم نتعامل مع الحدث في إطار الممكن والمعقول الامر الذي ادى الى اضاعة الفرصة إثر الاخرى".
هذا التحليل الرائع للآلية التي تحرك فيها العرب ازاء فلسطين لا تعني انه لم تكن هناك اصوات عاقلة جريئة. لكن اصوات الغوغاء كانت أعلى والعواطف أقوى.
لقد حاول عبدالله الأول انقاذ فلسطين من خلال العقلانية لكن جهوده ذهبت ادراج الرياح لان المشاغبين على تلك الجهود كانت لهم اجندتهم التي وافقت هوى القوى الصهيونية والاستعمارية. وقد لاقت تلك الاجندة الدعم والإسناد بحيث كانت دوما ذات صوت أعلى وذات اولوية أقوى.
اما الملك الحسين فكان همه منذ اعتلاء العرش تحقيق حل مشرف للقضية الفلسطينية يتضمن العدل للجميع. كانت محاولاته قبل حرب 1967 غير مجدية حيث كان صوت العاطفة أقوى من صوت العقل. لو تمكن عبد الناصر من التغلب على عواطفه وعلى الضغوط التي تعرض لها سواء من قبل جماهير متحمسة أو من قادة وزعماء لم يستطيعوا ان يروا ابعد من انوفهم، لربما تغير مسار الاحداث.
لقد فوض الرئيس عبد الناصر أكثر من شخص للاتصال بالإسرائيليين واستيضاح امكانات التوصل إلى حل سياسي.  في العام 1954 كلف عبد الناصر الصحفي المصري ابراهيم عزت بنقل رسالة خطية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي عن طريق وزير الخارجية موشيه شاريت تحتوي على مقترحات مصرية لتسوية سلمية واتفاق على عدم الاعتداء بين مصر وإسرائيل. 
وفي العام 1955 تدخلت وكالة الاستخبارات الأميركية لترتيب لقاء بين عبد الناصر وموشي شاريت لكن عبد الناصر طلب مبعوثا إسرائيليا إلى القاهرة فجاء ايغال يادين. لكن هذه الجهود اخفقت بسبب ما عرف بفضيحة لافون وما ترتب عليها من اعتقال خلية تخريب إسرائيلية وإعدام اثنين من اعضائها.
لكن تلك المحاولات استمرت عن طريق الملحق الصحفي بالسفارة المصرية في باريس الذي نقل رسالة من عبد الناصر إلى الحكومة الإسرائيلية يطلب منها ان تتفهم موقف القاهرة التي كانت ترغب في اعادة بناء سياستها تجاه إسرائيل بالتدريج لكي "يصل الجانبان إلى نتائج أفضل. ولذا ستقدم الحكومة المصرية من جانبها كخطوة اولى بوقف التصريحات العدائية ضد إسرائيل".
كان عبد الناصر يدرك حجم القدرات العربية. وقد أعلن مرة انه لا يملك خطة لتحرير فلسطين. لكن ذلك الإعلان أحدث ضجة واسعة في العالم العربي. ويقول هيكل ان كثيرا من الزعماء العرب جاؤا اليه يرجونه ان لا يكرر ذلك الإعلان حتى لا يؤثر على معنويات الامة.
لم تكن الجهود العربية لتحقيق السلام قبل العام 1967 مجدية على الاطلاق. فأي محادثات سلام علنية مع إسرائيل كان سينظر إليها على انها خيانة وخروج عن الاجماع العربي الذي كان هدفه المعلن تحرير فلسطين وإعادة الحقوق الفلسطينية السليبة.
اما الاتصالات الأردنية الإسرائيلية سواء قبل حرب 1967 أو بعدها، فلم تثمر أي نتائج ملموسة. فالملك الحسين لم يكن يقبل أي تنازل يتعلق بالأرض او الحقوق الفلسطينية. كان يؤكد في كل مرة انه لا بديل عن استعادة كامل الاراضي المحتلة بما فيها القدس الشرقية.
ظل الملك الحسين يرفض في جميع حواراته مع الإسرائيليين صيغة التسوية الاقليمية. ظل يرفض رفضا باتا وقطعيا انشاء مستوطنات أو مواقع عسكرية إسرائيلية على طول نهر الأردن ولا حتى مجرد نقطة مراقبة على الجسور.
كان الملك الحسين يرى ان السلام ممكن في أي وقت، ولكن لا بد ان تعيد إسرائيل كافة الاراضي التي استولت علها في حزيران 1967 وهذا امر الزامي لا غنى عنه. اما القدس "فيمكن ان تظل موحدة وان تصبح نقطة تلاقي للديانات المسيحية والإسلام واليهودية".
والآن، وبناء على التحليل الذي اشار اليه الحسين في خطابه عشية مؤتمر مدريد، لو استعرضنا مختلف الحلول التي عرضت لحل القضية الفلسطينية، مستثنين الحلول الاستسلامية غير المنطقية، لوجدنا ان كل حل كان في مزاياه ومكاسبه للفلسطينيين اقل من الحل الذي سبقه. لقد كان الأردن أكثر الدول العربية نشاطا على الساحة الدولية يشرح الموقف العربي ويقدم المطالب العربية بطريقة عقلانية واضحة ومباشرة.
لكن فرصا كثيرة ضاعت بسبب السياسات التي اتسمت بالسطحية من جانب بعض الجهات العربية حيث سيطرت العاطفة وغاب العقل.
فمن هي الجهات التي كانت تعوق الحلول السلمية بعد ان قررت الدول العربية ان يكون السلام خيارا استراتيجيا لا رجعة عنه، الامر الذي يعني ان ما يهم العرب من السلام هو عودة إلى حدود الرابع من حزيران العام 1967؟
في بداية الجهود السياسية كانت إسرائيل هي العائق الاكبر أمام تطبيق قرار مجلس الأمن. لكن جهات عربية كانت تدعم الموقف الإسرائيلي من حيث تدري أو لا تدري. قد يكون ضربا من الخيال لو اعتقدنا ان الجهود السياسية قبل حرب اكتوبر كان يمكن ان تثمر عن شيء ايجابي. ولكن الاحداث على الساحة العربية ما بين 1967 و1973 لم تكن احداثا بريئة على أي حال.
كانت إسرائيل تريد الاستفراد بالأردن دون ان تعيد الاراضي بالكامل. وكان الأردن يريد تفويضا عربيا علنيا وواضحا قبل الاقدام على أي تسوية. بعد حرب اكتوبر تغيرت المعادلات وتغيرت الحقائق على الارض. وبصدور قرار قمة الرباط العام 1974 بحصر التمثيل الفلسطيني بمنظمة التحرير الفلسطينية طويت صفحة مهمة في تاريخ الشرق الاوسط.
لقد كان هناك وراء قرار الرباط ما وراؤه. فإسرائيل التي ترفض الاعتراف بالحقوق الفلسطينية كانت ترفض الحديث مع الفلسطينيين. وجاء القرار ليضيع الحقوق ويضيع معها سنوات من الجهود الضائعة. فالأردن الذي كان يمكنه ان يفاوض ويستعيد الارض بتفويض عربي واضح لم يعد يملك أي اوراق للتفاوض. ومنظمة التحرير التي أنيط بها مسؤولية التمثيل الفلسطيني حصرا، غير معترف بها من قبل إسرائيل ولا من الولايات المتحدة ولا من معظم الدول الغربية.
جهود هائلة بذلت ولكن دون جدوى وسنوات طويلة زادت فيها معاناة الفلسطينيين ونضوب موارد عربية هائلة.  إلى ان جاءت مفاجأة الرئيس انور السادات التي خلطت الاوراق مجددا في المنطقة وضاعت سنوات اخرى.
كانت السنوات تضيع لان الكثير من القيادات العربية ظلت تهوى لعبة الهروب من الواقع بطرح المزيد من الشعارات ونسج المزيد من الاوهام والأحلام والمضي في المزيد من تضليل شعوبها على حساب مصالح تلك الشعوب حتى لكأن من قدر هذه الامة ان يحبط اندفاع مسيرتها بالوقوع الدائم في الحلقة المفرغة حلقة الفشل والتضليل.
كان هناك من يقول نتركها للأجيال القادمة. ولكن اليس في هذا تهرب واضح من المسؤولية. اليس كل جيل مسؤول عن الحقبة التي يعيش فيها؟ما الذي يجعلهم يعتقدون أن ظروف الاجيال القادمة ستكون مواتية لتحقيق ما يتجنبون هم تحقيقه. وأين الحكمة في توريث الاجيال القادمة تركة ثقيلة قابلة للتراكم أكثر من قابليتها للتناقص؟ كان هذا تهربا من المسؤولية.
في منتصف الثمانينيات كان الموقف الدولي يرى ان بالإمكان "استرجاع الارض المحتلة من خلال صيغة اردنية فلسطينية ترتب على الطرفين التزامات يعتبرها العالم ضرورية للوصول الى تسوية سلمية عادلة ومتوازنة".  وبناء على هذه الرؤيا كان الأردن يجاهد في سبيل حشد التأييد لعقد مؤتمر دولي تحضره الاطراف المعنية إلى جانب الدول الكبرى والأمم المتحدة.  ومن هنا كان هناك الاتفاق الأردني الفلسطيني الموقع في شباط 1985. كان ذلك الاتفاق بداية العمل الصحيح على طريق التسوية. استند هذا الاتفاق الى مبدأ مقايضة الاراضي العربية المحتلة العام 1967 بالسلام وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حسب قرارات الأمم المتحدة وحل القضية الفلسطينية من جميع جوانبها وصولا لحل نهائي لنزاع مزمن.
لقد اوجد هذا الاتفاق فرصة لا سابقة لها للأطراف ذات العلاقة لتنشيط عملية السلام ترتكز على مبدأ إعادة الارض مقابل السلام من خلال مفاوضات ترتكز على مبادئ تضمنتها قرارات مجلس الأمن الدولي.
حتى شباط 1986 استطاع الملك الحسين بجهوده وحنكته وقدراته الدبلوماسية ومكانته على الساحة الدولية ان يحقق ما كان يصنف في دائرة المستحيل وفتح من المسالك ما كان يقدر بأنه ممتنع وتمكن من الوصول عمليا إلى تنفيذ قرار القمة العربية في فاس إلى ما قبل مرحلة عقد المؤتمر الدولي الذي نص عليه. وكان يجب ان لا تفوت هذه الفرصة. لكنها فوتت وضاعت او ضيعت.
في اجتماعات ماراثونية في عمان واتصالات وحوارات معمقة مع الجانب الأميركي حول ضمان صيغة تؤدي إلى بدء التفاوض وفق الصيغة الجديدة المتفق عليها بين الأردن ومنظمة التحرير، ظل الرئيس عرفات يقول بأنه بحاجة الى التشاور مع القيادة الفلسطينية حول الموضوع.
بطبيعة الحال كانت منظمة التحرير قد اتخذت قرارها النهائي برفض القرار 242 في اجتماع القيادة الفلسطينية في بغداد في 24/11/1985 دون ان يبلغ الأردن رسميا بذلك.
ولهذا غادر عرفات عمان على ان يعود اليها بعد ايام حاملا الجواب بالموافقة على كل ما تم الاتفاق عليه. لكنه غادر عمان ولم يعد اليها. وضاعت فرصة لم تتكرر. وأعلن الملك الحسين وقتها"عدم التمكن من مواصلة التنسيق سياسيا مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية حتى تكون للكلمة منها معناها التزاما ومصداقية وثباتا".
    من الطبيعي ان تؤدي هذه الحالة إلى تجميد الجهود السياسية الرامية للوصول إلى حل في الوقت الذي تستغل فيه إسرائيل الوقت لتغيير الوقائع على الارض بحيث عندما يأتي وقت المفاوضات لا يكون هناك شيء للتفاوض عليه. بالنسبة لإسرائيل كانت الأرض الفلسطينية هي الهدف وبالنسبة لبعض العرب وبعض الزعماء كان الهدف اطماع شخصية وطموحات فارغة. كان يبدو ان هناك تيارات في الساحة العربية والفلسطينية منها على وجه الخصوص لا تدرك مخاطر التأخير. 
    منذ ذلك الوقت سنوات طويلة ضاعت ودماء زكية كثيرة سالت وشباب أهدروا حياتهم بلا ثمن. كان المواطن العادي يعتقد ان رفض تلك الجهات والقيادات لفرص السلام يعني ان لدى تلك الجهات والقيادات بدائل أفضل وستأتي لجماهيرها بنتائج أحسن، ولكن تبين عندما قامت تلك الجهات والقيادات بالتفاوض مباشرة مع إسرائيل، لم تأت بما هو أفضل ولم تحقق ما هو أحسن بل كان ما وافقت عليه وما قبلت به أدنى مما كان معروضا عليها قبل سنوات وقبل التضحيات الكثيرة والخسائر الجسيمة التي تحملها الشعب.
وحتى عندما وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على مؤتمر مدريد في العام 1991، لم يكن قادة المنظمة خارج الاراضي الفلسطينية راضين عن طريقة تفاوض الوفد الفلسطيني. عدم الرضا هذا ليس لان الوفد لم يكن يفاوض جيدا، على العكس بل لان الوفد كان متصلبا وشديدا في مفاوضاته مع إسرائيل ومتمسكا بالحقوق الوطنية. ولان الهدف كان مصالح شخصية وأطماعا سياسية، كان الالتفاف على المفاوضين في واشنطن من خلال ما عرف باتفاق اوسلو الذي ادخل قيادات الخارج في اللعبة السياسية. اتفاق اوسلو وان حقق شيئا ملموسا على الارض، فقد كشف كم كان الامر مجرد لعبة سياسية. ووافق فريق اوسلو على كثير من التنازلات التي كان يتباهى قبل المفاوضات بأنه لن يتنازل عنها.
منذ هزيمة حزيران 1967 وحتى معاهدة كامب ديفيد ومن كامب ديفيد إلى الانتفاضة الأولى ومنها إلى مدريد واوسلو كل ذلك عبارة عن فرص ضائعة بينما الوقائع على الارض الفلسطينية تتغير لمصلحة إسرائيل. وعندما دخلت القيادة الى الاراضي الفلسطينية لم تحسن التعامل مع الوقائع الجديدة وظلت تراوح مكانها إلى ان وصلت الان إلى مرحلة تكاد تفقد فيها مواقع اقدامها.
كان يمكن لكل هذا الخسران ان لا يقع. وكان يمكن ان يعيش الشرق الاوسط حياة اخرى مختلفة ويوفر على انسانه وموارده ومستقبله الكثير من الفظائع التي شهدها سواء في فلسطين او العراق او لبنان. ولكن في السياسة كما في التاريخ فان كلمة "لو أن" لا تجوز. ومع ذلك يظل الانسان يرددها من باب اليأس الذي وصل اليه الوضع الذي نعيشه الآن. لقد اضاع العرب الكثير من الفرص منذ بدء القضية الفلسطينية. والأوضاع الحالية التي تعيشها القضية تجعل من المؤكد ضياع المزيد من الفرص وإهدار المزيد من الدماء وتبخر الكثير من الوقت قبل ان يستيقظ العرب على واقع جيد حيث لا ينفع الندم.