في ذكرى النكبة: قليل من الثورية وكثير من العقلانية

هل مازال بإمكان العرب إحياء ذكرى الخامس عشر من أيار 1948 التي تنشّأت كل الأجيال اللاحقة لها على اعتبارها نكبة العرب الكبرى؟ فرسميا على الأقل، هناك اعتراف عربي من المحيط إلى الخليج بإسرائيل، ما يعني صراحة حقها في كل الأراضي الفلسطينية التي أقيمت عليها تلك الدولة، بما فيها الأراضي التي تزيد عن قرار التقسيم، وبحيث يتناقض بالتالي القول باغتصابها مع الشرعية الدولية المتجسدة في حق إسرائيل في الوجود، والذي باسمه ولأجله قرر المجتمع الدولي الحر والديمقراطي اتخاذ الشعب الفلسطيني بأكمله رهينة لا تتمتع بالمقابل حتى بالحق في توفير احتياجاتها الإنسانية الأساسية التي تبقيها حية، بغض النظر عن الحرية والكرامة!

اضافة اعلان

لكن حتى لو كان بإمكان العرب، ومن حقهم إحياء ذكرى الخامس عشر من أيار، على الأقل بقوة الاحتلال والحصار الإسرائيلي الذي يجعل الحديث عن السلام حلما أقرب إلى الأسطورة الخرافة، والحديث عن الشرعية الدولية مطابقا لتقبيل يد الجلاد، فلعل السؤال هنا: هل مازالت نكبة فلسطين العام 1948، نكبة العرب الكبرى فعلا؟ أفلا يمكن اعتبار النكبات الأخرى التي عرفها العرب طوال الفترة اللاحقة، على أرض فلسطين ذاتها وصولا إلى سقوط بغداد واحتلال العراق، نكبات أكبر؟

أيا كانت الإجابة والموقف مما سبق، تظل نكبة فلسطين العام 1948 تستحق بحق وصف "أم النكبات"، ليس لأنها الأولى، بل لأنه باسمها تم استجلاب كل النكبات اللاحقة، وهي لذلك تشكل إلى حد كبير نقطة الارتكاز في فهم ما جرى ويجري في الوطن العربي منذ ذلك التاريخ على الأقل. فباسم فلسطين وقضيتها العادلة، من حيث هي قضية عربية إسلامية، كانت الانقلابات والثورات التي لم تفضِ في أحسن ظروفها إلا إلى ديكتاتوريات كان ثمن انتهاء بعضها الوطن ذاته، طبعا بعد أن ضاعت البقية الباقية من فلسطين في ظل ذات الشعارات.

وإذا كانت الذكرى الثامنة والخمسون للنكبة مناسبة لأي شيء، فهي ليست بالتأكيد مناسبة لإلقاء التهمة العربية الجاهزة أبدا بالخيانة والعمالة، فطالما أن الجميع من وجهة نظر خصمه العربي هو الخائن والعميل، يصبح بدهيا أن تمس هذه التهمة الأمة بمجموعها، فتغدو في أرقى مستوياتها مجموعة من المتهالكين القابلين للسقوط والإسقاط مباشرة، وبأقل القليل من العناء –إن لزم أصلا- أمام العدو. وإذا كان هناك ما يجمعنا فعلا، وهو السبب في أن نكبة 1948 مازالت تتوالى فصولا على الفلسطيني إلى اليوم، وتلد نكبات أخرى للعربي في غير مكان، فليس ذلك القاسم المشترك إلا ثوريتنا التي خلت من أي عقلانية، وبالتالي خلت من أي سياسة أو برنامج!

تلك الحقيقية يمكن اختزالها في سؤال ثوار البندقية، كما ثوار الخطابات الرنانة الذي يعلنون استقالاتهم الجماعية أو انتحارهم الجماعي بنقل البندقية من الكتف إلى الكتف، عن سر انتهاء الثورة رغم وجود أكثرية الثوار أحياء يرزقون! والسؤال لماذا يكون المثقف العربي في الغرب "المعادي" أو الجاهل بعدالة قضيانا أكثر قدرة من مثقفي العروبة -بمن فيهم أولئك الذين يرفلون بنعيم أنظمة ثورية امتهنت استثمار قضايانا العادلة- على الدفاع عن قضايانا؟ أما إن لم يوجه الجيل الحالي هذه الأسئلة، كونه بات مستلبا لقشور الحضارة الغربية، ومنشغلا بالتالي بفسافس الأمور، كما يقال دوما، فإن على ثوارنا وسواهم المحبطين من هذا الجيل أن يسألوا أنفسهم ما إذا كان هذا الجيل هو نبت شيطاني، أم أنه نتاج أزمات وإحباطات من ربوهم، أو لربما تركوهم دونما مرجعية أو توجيه؟

حتى ينهي العرب خصوبة نكبات بدأت العام 1948 ولم تنته، فإنهم لا يحتاجون إلى جيل من الثوار فقط، بل هم يحتاجون إلى جيل من الثوار العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين العقلانيين، وبالتأكيد المنتمين إلى قضايا أمتهم، أو بعبارة أخرى: قليل من الثورية، وكثير من العقلانية، فهذه فقط ضمان المراجعة والمحاسبة والتصحيح بديلا عن مجيء الرجل الأميركي الأبيض المخلص.

[email protected]