"في عينيا".. الأبوة في مواجهة "التوحد" بأطيافه

Untitled-1
Untitled-1
إسراء الردايدة عمان – قليلة هي الأفلام العربية التي تعاملت مع "التوحد" وأطيافه في سن مبكرة، كذلك من يتعرضون للرفض من قبل آبائهم، وهي القضية التي تعامل معها المخرج التونسي نجيب بالقاضي في فيلمه "في عينيا". الفيلم الذي عرض في إطار فعاليات الدورة 25 من مهرجان الفيلم الفرنسي العربي أول من أمس، يوثق لرحلة أب يعيد بناء علاقته مع ابنه المصاب بالتوحد، إذ بنى بالقاضي فيلمه على أبحاث ودراسة قام بها، متناولا الآباء الذين يتنصلون من مسؤولياتهم إما بالهرب او الطلاق. الأب "لطفي" جسد دوره الممثل نضال السعدي الذي يعيش في مرسيليا الفرنسية، وأسس حياة جديدة له برفقة زوجة فرنسية وهو بانتظار طفل آخر يجد نفسه مضطرا للعودة الى تونس للعيش مع ابنه الذي تركه قبل سبع سنوات والمصاب بالتوحد. يجد هذا الأب نفسه أمام تحديات وتنازلات كبيرة أبرزها مرحلة إعادة بناء العلاقة مع ابنه، ليجد طرقا مختلفة للتواصل معه وبناء جسر يسهل عليه عيش حياة طبيعية مثل اقرانه. بالقاضي الذي عرض فيلمه في مهرجان تورنتو السينمائي في العام 2018، يغوص في دراما عائلية تعيد مشاعر الأبوة المفقودة، بعد العودة لطفل هجره بسبب مرضه، فيما يبقي حياته الاخرى سرية، خاصة بعد وفاة والدته وتخلي خالته عنه، ليغدو الفيلم رحلة تتبع التطور النفسي للبطل منذ اللحظة التي تطأ فيها قدمه وطنه الأصلي. وفيما يتحدث الفيلم عن حقوق المصابين بالتوحد وأطيافه، وحركة نداء من أجلهم، هو يستعرض وسائل التعامل معهم مثل اللعب والتواصل لمساعدتهم على تأدية مهامهم اليومية، وبنفس الوقت هي رحلة نضوج للأب واستعادة وكسب لمشاريع الأبوة واستحقاقها بالتعب. إلى ذلك، يركز الفيلم على الجانب العاطفي لتنمية مهارات الابناء المصابين بالتوحد كبديل عن ايداعهم في مراكز خاصة وفصلهم عن اقرانهم لاشعارهم بانهم طبيعيين، وتنمية تفاعلهم مع الآخرين، بعيدا عن اظهارهم بانهم يعانون من "إعاقة". التحدي في العلاقة بين الأب وابنه يدخل في مستويين هما الثقة واكتسابها وبناء رابط الأب وابنه الطبيعي عبر توثيق هذا بكاميرا يستخدمها لطفي لتصوير كل اللحظات التي تجمعه بابنه يوسف، واكتشاف جوانب مختلفة في ذاته وفي صغيره. وأبقى بالقاضي على ثيمة التوحد عبر كاميرته، وبنفس الوقت قدم لشخصياته مساحة كبيرة لشرح جوانبها واظهار نموها خاصة الاب لطفي، فهو عدائي وعنيف منذ المشهد الاول بخلاف اسمه، ذو خلفية إجرامية وفظة، تتحول تدريجيا للوجه الاخر المرتبط بيوسف. وأما يوسف ذلك الطفل الذي يختبر احداثا صعبة منها وفاة والدته، وحساسيته كمصاب بالتوحد وطبيعة جدوله اليومي التي قلبت موازين عالمه. وللعينين في الفيلم رمزية عالية، فهي بوابة فهم ابنه وبنفس الوقت وجد ان التواصل معه من خلالهما يؤزم من حالته ويسبب له اضطرابا، فأصبح يتجنب ذلك، وهي واحدة من الامور الشائعة عن التوحد التي تكمن في صعوبة التواصل البصري والتي يرفضها الطفل بشدة، وهو سبب آخر لاستخدام الكاميرا كوسيلة لنباء جسر من التواصل بينهما. كلا الشخصيات المركزية تقوم برحلات موازية لتحقق ذاتها، بمواقف حقيقية لا تخلو من الفوضى والاحباط والغضب وهي اكثر المشاعر شيوعا في مواجهة الحقيقة التي تتعارض مع طموحات غير واقعية. وجوهر الفيلم ليس التوحد وأهميته فقط، بل عالم الطفل يوسف المصاب بالتوحد، وكيف يشعر حين تختفي والدته التي توفت وهو غير قادر على التعبير، ويجد نفسه في حضن أب غريب لم يعرفه من قبل. "في عينيا" يتعامل مع البعد الانساني العائلي للتوحد، وليس معالجة لجانبه السريري، الى جانب تعامله مع بعض المحرمات غير المعلنة في المجتمع التونسي، خاصة العلاقات خارج نطاق الزواج، والنظر للتوحد كمرض عقلي من قبل بعض القطاعات في المجتمع وعدم تقبلهم لمن يحمله ما يكشف عن الفصام الاجتماعي من خلال ردود الفعل المتباينة. وفي أجوائه التي لا تخلو من التناقضات والمفارقات الصعبة، يناقش موضوعا حساسا بطريقة ذكية ليقدم فيلما ذو شخصية، بدءا من اللقطة الاولى التي تحمل صورة لجنينين في فحص السونار، ليظهر ويحدد موضوعه وهو الابوة. ويتفوق الفيلم في سيناريو تفصيلي وشخصيات مكثفة تعكس ابعادها وتفاعلاتها ونموها، وسردية اكثر من الوصف تضغ المشاهد في مغامرة بصرية عاطفية تخلو من الميلودراما التي تخدم القصة الاساسية عبر تفاصيل تمر بسرعة في ايقاع بصري متقن وكاميرا محمولة ولقطات ثابتة التي بلغت نهاية يملؤها الأمل، خاصة أن الكاميرا تحولت لأداة علاجية.اضافة اعلان