في فوائد الحوقلة!

مات رئيس دولة لكنّي لم أجد أن هذا مبرراً لأكسر باب عزلتي وأكتب رثاء ناصرياً. قام شعب طيّب يسكنُ منذ آلاف السنين بجوار النيل وأشجار الكافور بثورة، فما اضطررتُ لإنشاء نشيد جديد. خرجتْ امرأةٌ من قلبي، وأخريات دخلن إلى جسدي، لكنّ هذا لم يدفعني للتورّط في كتابة عشرين قصيدة حب وأغنية يائسة. توقّفتُ عن الكتابة تسعين يوماً حين اكتشفتُ أنّ أصابعي متشابهة وقد تبدو متساوية، وأنّ الذي يجري في دجلة مثل الذي يجري في الفرات.. والغابة أجمل من ديوان شِعر.اضافة اعلان
لم أجد سبباً لأن أستمع سوى إلى النّادل الذي يقرأ عليّ قائمة الشاي، فلا أنباء عن السلام في نشرة الأنباء، ولا أغنية جديدة لعبد الحليم حافظ في الإذاعة، حتى صوت الموج قرب الرّوشة شديد الرتابة، وسبق لي أن استمعتُ إليه عند كورنيش أبوظبي. المرأة التي تقولُ شِعراً منسوباً إليها، والصديق الذي يذكّرني بهروبنا الجبان من الحرب، والبصّارة التي تعدني بالخروج من عنق الزجاجة الخضراء، كانوا شفاهاً تتحرّك بلا زئبق، فقد أهملتُ إزالة الشمع من أذني، وافتعلتُ الإصابة المتقدمة بالصمم.. وأعفيتُ من التصفيق في الزفّة!
تسعون يوماً كنتُ مقيماً مع الضجر في شقة أرضيّة، اضطررتُ للتثاؤب، فسقط خيط من الدمع، احتسبته بكاء. لا أذكرُ آخر مرّة بكيتُ فيها، بالطبع بكيتُ عندما مات أبي صغيراً في العمر الذي يتزوّج فيه الرجال الزواج الثاني، وأظنّ أنّي توقفتُ عن البكاء منذ أن امّحى الكلام الأسود عن شاهد القبر. أقلّب قائمة الأفلام ربّما أعثر على فيلم لممدوح عبد العليم، فقد كان سريع البكاء، قد أصابُ بالعدوى، وتكون فرصة لتنظيف العين، فلا سقوط العواصم تحت العمائم أبكاني، ولا قصص الناجين من سجون الشرق، ولا ألم الأسنان!
لم أضطرّ أيضاً للكلام، أشرتُ للنادل على الطعام البحريّ في القائمة، ورددتُ التحيّة الطويلة على جارتي بابتسامة متعدّدة الأغراض، والساعي كانت ترضيه القطعة النقديّة أكثر من كلام الشكر. الشرطيُّ كان يهمه التطابق في العبوس بين الأصل والصورة، والصديق تفهّم رغبتي بعدّ الشعرات السوداء في لحيتي البيضاء، وحبيبتي ما يهمها ألاّ أكلّم حبيبة سواها. ليس لي رأي مختلف عن الدهماء، ولا صوت لي أكثر مما يصدر عن القطيع، ولا ضرورة لأنْ أعترض أو أشكو وأتذمّر، يكفي أن أبتلع ريقاً حامضاً، وأعدّد في صمت فوائد الحوقلة.
.. لكنّي مضطرّ الآن، بعد تسعين يوماً من الإقامة مع الضجر في شقة أرضية، للعودة إلى الكتابة، سأعيدُ إذن تدوير ما كتبتُ من رثاء ناصريٍّ، ولديّ تتمة لم أنشرها لأغنية يائسة في حبٍّ طفت جثته فوق الفرات، ومُكرَهٌ على الاستماع للموج وشِعر مسروق وخطاب يعد بالخروج من عنق الزجاجة الخضراء. سأعود للكلام في كلّ شيء، وعن أيّ شيء.. عن شفتي حبيبتي الضامرتين، وتفوّق المسواك على معجون الأسنان، ومحاسن الموت في الخمسين، وسأكون مُجْبَراً على البكاء ولو بواسطة البصل، حتى لا أفقد المسمّى الوظيفيّ: إنسان.