في مخاطر الاستعجال الديمقراطي

 منذ سنوات قليلة، وتحديداً قبيل حرب العراق الاخيرة، شرعت تتردد الفكرة التي ما لبثت الاحداث ان اظهرت خطأها وتبسيطها. ومؤدى الفكرة هذه، انه بمجرد ان يطاح بنظام مستبد كنظام صدام حسين حتى يهب الشعب العراقي هبة واحدة يطلب الديمقراطية.

اضافة اعلان

بطبيعة الحال لم يكن مكسب اسقاط نظام صدام، على اهميته، كافياً لجعل هذا "الحلم" يتحقق. وهو لم يتحقق لانه، بالضبط، حلم.

وما يحمل على قول كهذا ان اصحاب الفكرة المذكورة فاتهم التمييز بين الحرية والديمقراطية، فظنوا ان طلب الاولى يعني حكماً طلب الثانية. والراهن ان الحرية هي رغبة كل فرد طبيعي، وكل جماعة سوية. وبالمعنى هذا، فان اسقاط النظام الاستبدادي يتجانس مع الرغبة في الحرية، بقدر ما يؤدي الى ازدهارها واتساع هامش التعبير عنها. وهو ما رأيناه فعلاً يتحقق في العراق، من خلال تكاثر عدد الاحزاب والصحف، وظهور الاصوات الخاصة بالافراد كما بالجماعات، على شديد اختلافها.

بيد ان الانتقال من الحرية الى الديمقراطية ليس تحصيل حاصل، فهنا تنتصب مسافة طويلة، اما ان ينجح الشعب المعني في عبورها او ان يفشل. والراهن ان ما يقرر النجاح او الفشل، في هذه الحال، ليس الرغبة او الارادة، على اهميتهما، بل توافر عدد من الشروط الموضوعية التي لا غنى عنها. والحال ان العراق، ومعظم بلداننا العربية، لا تملك الا الحد الادنى من هذه الشروط.

يكفي التذكير بان "السياسة" نفسها لا تزال سلعة غريبة عنا؛ فهي وفدت الينا مع وفادة اوروبا، وكانت انقضت آنذاك اربعة عقود على تأسيس ماكيافيللي لها بوصفها نشاطاً مستقلاً بذاته. لكنها لا تزال لدينا، حتى اللحظة، مدموجة بالدين والدم والكرامة والشرف.. الخ. اما الوطن نفسه، وهو للسياسة مثل الملعب للعبة كرة القدم، فلا يزال يقاتل مهزوماً ضد روابط القرية والجماعة والطائفة والاثنية، كما ضد روابط ايديولوجية، قومية ودينية، تشكل تهديداً لواقعة الدولة الوطنية ولانسجام مكوناتها السكانية. واذ لا يمكن ان يتشكل، والحال هذه، رأي عام وطني عابر للجماعات، لا تنشأ طبقة وسطى عريضة، هي للسياسة قاعدتها ومرتكزها. واذ تَضمر البورجوازية المستقلة عن جهاز الدولة، والتي تحمل طموحاً الى تغيير المجتمع، يبدو الفرد وفرديته اقرب الى هرطقة، لا يعادلها الا المطالبة برفع حس النفع والفائدة الى مصدر الاحكام العامة. واذ تبقى حقوق الملكية غير معترف بها في بلدان عربية كثيرة، تبقى حقوق الجنسية قابلة للنقض والالغاء على يد الحاكم.

وغني عن القول ان ايا من المجتمعات لا يمكنه القفز مرة واحدة من هذه الافتقارات والعناصر السالبة الى بناء الديمقراطية. لكن المطالبين بالديموقراطية فوراً، اكانوا اميركيين ام عرباً، فاتهم امر اخر لا يقل اهمية. فهم افترضوا ان ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية في المانيا واليابان، ثم حصل مجدداً بعد انتهاء الحرب الباردة في اوروبا الوسطى والشرقية، قابل للحصول عندنا. ذاك ان البلدان المذكورة التي هزمت، بشكل او اخر، على يد "الغرب"، ما لبثت ان اعتنقت طوعاً -وبمجرد اسقاط انظمتها الاستبدادية- الديموقراطية "الغربية".

وللاسف، فالحال عندنا ليست على هذا النحو، لاسباب يتصل بعضها بتواريخ منطقتنا وثقافاتها، كما يتصل بعضها بالعلاقة التي حكمتها طويلاً بـ"الغرب"، وساهمت في تحويل اللاعقلانية الرفضية الى وعي شعبي عريض.

فاذا كان سكان المانيا الشرقية وبولندا وهنغاريا تواقين للالتحام باوروبا، لا يردعهم عنه الا وجود الاتحاد السوفييتي والانظمة التابعة له، ففي منطقتنا لم يكن صدام حسين، وزملاؤه المستبدون، وحدهم من يمارس هذا الردع، الذي شاركتهم فيه التواريخ والثقافات المذكورة. وهنا نقع على عدد من العناوين التي ربما كان اخرها النزاع على الاندلس وغير ذلك.

وقد لا نكون نبالغ حين نقول ان المستبدين كانوا، في حالات عدة، اقل تشجناً حيال النموذج "الغربي" من مجتمعاتهم ومعارضيهم، وكان هؤلاء الاخيرون يأخذون عليهم، بين الفينة والاخرى، تفريطهم وتساهلهم حيال "الغرب". وهذا يعني ان تقبل مجتمعاتنا للديمقراطية الوافدة من اوروبا والولايات المتحدة ليس اطلاقاً بسهولة تقبل البلدان الاخرى المذكورة. فاليابان، مثلا، لم تربطها علاقات تناحرية قديمة بالاوروبيين والاميركيين، بل استنفد النزاع مع الصين وسائر جوارها الاسيوي معظم تاريخها. اما بولندا، فترافقت ولادة وطنيتها في القرن العاشر باعتناقها الكاثوليكية، التي وصلت اليها من ايطاليا. وبالمعنى نفسه، اقدم الملك الهنغاري غيزا، اواخر القرن العاشر، على مطالبة روما بايفاد بعثات دينية تعبد الطريق امام ارتباط بلده بالغرب. وقد اتخذ نجله، الملك فاجك، اسم اسطفان مع تبوئه العرش يوم عيد الميلاد، في العام 1000، ثم خاض حروباً لفرض الكاثولوكية، كوفئ عليها بسيامته قديساً مسيحياً.

وما يصح في هذه البلدان يصح في اخرى، لم تملك من التحفظات على "الغرب" و"الغربية" ما ملكته منطقتنا، فضلاً عن انها جميعاً عرفت من المؤسسات والحياة السياسية والفكرية اكثر مما عرفنا واخصب.

وبالطبع، لا يقودنا الكلام اعلاه الى التشكيك بالديمقراطية، على ما يفعل بعض دعاة "الاصالة" و"الخصوصية"، فهي بالطبع الأفق الوحيد المتاح للتقدم على نطاق عالمي. بيد ان ايراد الصعوبات، فيما نحن نرى الجثث تتكوم في العراق، يحملنا على مبارحة التبسيط، والتفكير في طرق اشد ذكاء ومرونة نصل عبرها، في اخر المطاف، الى الديمقراطية.