في مواجهة الاستحقاق الاقتصادي

تبدو الشهور القادمة في غاية الأهمية في الشأن الاقتصادي، الذي بات يحتل بامتياز المرتبة الأولى على أجندة صانع القرار، لما له من تداعيات مباشرة وكبيرة على الحياة اليومية لأكثر المواطنين.

اضافة اعلان

وقد قوبل شراء الحكومة ما يزيد على بليوني دولار من ديون الأردن الخارجية بارتياح شديد من قبل الخبراء الاقتصاديين، على اختلاف مدارسهم ومواقفهم. وإذا كان شراء الديون سيكون بأموال التخاصية، فإنّ هذا يفرض تحدياً حقيقياً أن توضع مئات الملايين من الدولارات التي ستتوفر سنوياً في خدمة مشاريع البنية التحتية والاستثمارات الرأسمالية التي كانت عوائد التخاصية ستتكفل بها.

تبقى معضلة الدين الياباني الذي يبلغ تقريباً بليون دينار، وهو أكبر دين خارجي. فإلى الآن وعلى الرغم من الجهود الرسمية الحثيثة، لم تتساهل اليابان في إعفاءات أو خصوم، كتلك التي قامت بها الدول الأخرى، ويعزو مسؤولون يابانيون هذا "الموقف المتشدد" إلى القانون الياباني نفسه، الذي يعتبر الديون اليابانية بمثابة "أموال للشعب" لا يجوز للحكومة اتخاذ قرار فيها. ويحاول المسؤولون هنا الوصول إلى مبادلة الدين الياباني بمشاريع استثمارية، كما حصل مع الفرنسييين سابقاً، الأمر الذي ما يزال اليابانيون غير مقتنعين به.

القضية الملّحة حالياً ترتبط بأسعار المشتقات النفطية، بخاصة مع ارتفاع أسعار برميل النفط إلى مستويات قياسية، هذا مع تجاوز قصة "توتر العلاقات مع إيران" التي ستؤثر بصورة مباشرة على أسعار النفط في حال حدثت تطورات مهمة عليها.

من الواضح أننا أمام قدر لا مفر منه في تحرير أسعار المشتقات النفطية وإنهاء دعم الدولة لها، ما يعني أنّ معطيات السوق العالمية ستنعكس مباشرة على السوق المحلية، وستؤثر على المواطنين، بلا حماية ولا ضمانات. ويبدو أنّنا لا نجد بديلاً آخر لهذه السياسة، وما دام الأمر كذلك فإنّ الحكومة لجأت إلى مشروع تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي وإعادة النظر فيها جذرياً في موازنة السنة القادمة، ورصدت لذلك قرابة مبلغ 250 مليون دينار، ستذهب في جزء كبير منها لزيادة رواتب موظفي الحكومة، وفق منطق السلم التنازلي (بمعنى رفع مقدار الزيادة كلما قلّ الراتب)، ووفقاً لمصادر مطلعة؛ فإنّ عمال "المياومة" في المؤسسات الحكومية سيشملهم القرار، وإن كانت هنالك توصيات بتثبيت هؤلاء العمّال بصورة رسمية في مؤسسات الدولة، كما هو حال الوعاظ والأئمة الذين تقرّر تثبيتهم ضمن موظفي وزارة الأوقاف خلال الشهور القادمة.

تبقى مشكلة موظفي القطاع الخاص، ذوي الدخل المتدني، ويبدو أنّ أحد البدائل المقترحة هي "البطاقة الممغنطة" فيما يتعلّق بأسعار المشتقات النفطية، وحث المؤسسات الكبيرة في القطاع الخاص بتفعيل بند "الحد الأدنى من الرواتب" وخلق معادلة متوازنة بين الرواتب الشهرية للموظفين والارتفاع الملموس في تكاليف الحياة وأسعار السلع الأساسية.

ثمة حذر شديد من صانع القرار في التعامل مع معطيات المرحلة القادمة اقتصادياً، لما لها من تداعيات مباشرة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إلاّ أنّ التحدي في هذا المجال كبير، بخاصة أنّ "ِشبكة الأمان الاجتماعي" ما تزال عاجزة عن مواجهة الاستحقاقات الكبيرة للتضخم وتجلياته المختلفة، مع بروز سافر للفجوة الطبقية، ما يدفع إلى التوسع أكثر في بناء توازنات تشمل إعادة أشمل لهيكلة رواتب القطاع العام وتفعيل قوانين العمل، ورفع الحد الأدنى من الأجور.

على الطرف المقابل؛ هنالك تشديد رسمي وإعلامي حالياً على أهمية "جمعية حماية المستهلك" وتفعيل دورها في التصدي لرفع الأسعار والعمل على تنظيم وتعزيز دور المستهلك كقوة إيجابية تمتلك خيارات حقيقية في مواجهة السوق. ومع ضرورة تطبيق هذه الرؤية واقعياً، مع ما تتطلبه من شروط قانونية ومالية وسياسية، فإنّ دور الجمعية يجب ألاّ يقف عند هذه الحدود بل أن يتعدّاها للتأثير على أنماط الاستهلاك التي لا تتسم بمعايير عقلية، وإنما بحالة من الفوضى والتخبط والمفارقات!

فلو أخذنا، على سبيل المثال، موضوع أسواق الاتصالات الخليوية الأربع لوجدنا أنّ إيراداتها، عن الخدمات المختلفة التي تقدّمها، تصل حتى نهاية النصف الأول من العام الحالي 413.5 مليون دولار، والعام الماضي كاملاً 774 مليون دولار، وهو رقم – بلا شك- ضخم جداً لمجتمع تعاني شريحة واسعة منه شروط اقتصادية صعبة.

والمفارقة تكبر عندما نقرأ أنّ مسح استخدام تكنولوجيا المعلومات في منازل المملكة (حتى شهر آب 2007) أظهر أنّ معظم الأسر لديها أجهزة خليوي بنسبة (86%) في حين أنّ (63%) من الأسر لديها أجهزة خليوي تعتمد على أكثر من خط. أمّا المستوردات (لسوق الخليوي) في النصف الأول من العام الحالي وصلت إلى 199.3 مليون دينار.

من القضايا المثارة التي طرحها العديد من الكتاب مؤخراً تتعلّق بالدعوات المتزايدة لتفعيل دور قطاع النقل العام للتعامل مع الارتفاع الملحوظ في أسعار الوقود. والحديث عن قطاع "النقل العام" يتشعب كثيراً، إلاّ أنّ حالة القطاع العام اليوم لا تشجع مطلقاً على اعتماده بديلاً لأكثرية المواطنين، وإذا كان هنالك جدية حقيقية من قبل الحكومة في إعادة الاعتبار للقطاع الخاص، فإنّ الأمر يستدعي منظومة من الترتيبات والسياسات والأنظمة والرقابة، ما يصل إلى إعادة هيكلة هذا القطاع الحيوي، ويعزز الثقافة الإيجابية تجاهه ويحفّز المواطنين إلى العودة إليه.

المقصود أنّ إعادة النظر في السياسات الاقتصادية يجب ألا تقف عند حدود الحكومة، بل أن تتسع إلى المجتمع المدني والأسر والأفراد، وأن تكون مركز تفكير وحوار وطني حقيقي، فالتداعيات الاقتصادية تنعكس علينا جميعاً، وهنالك معطيات وآفاق عديدة للتعامل مع المعضلة الاقتصادية لكن لابد من تفكير خلاّق.

[email protected]