في وداع "السفير"

يوم حزين واسود على الإعلام العربي وحرية الصحافة في هذا الشرق المنكوب، سيكون مطلع العام المقبل، حيث ستختفي عن واجهات الصحافة العربية "السفير"، الصحيفة العربية العريقة، التي واكبت صفحاتها تاريخا لبنانيا وعربيا امتد لعقود، وذلك بعد ان انهكتها الازمات المالية جراء تراجع سوق الصحافة الورقية، اعلانا وتوزيعا، أمام القادم الجديد، الصحافة الإلكترونية والنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. اضافة اعلان
التقيته، مع عدد من الصحفيين العرب، في مكتبه ببيروت قبل نحو ثلاثة اشهر، حيث لم يغب وجع معاناة "السفير" مع سوق لا ترحم، عن حديث ابيها الروحي ورئيس تحريرها الاستاذ طلال سلمان.
جاء ذلك اللقاء غداة تراجع ادارة الصحيفة عن وقف نشر نسختها الورقية والاكتفاء بالنسخة الإلكترونية، لكنه كان قرارا "يرحل" الاستحقاق الصعب، ولا يلغيه، كما اسر لنا سلمان، الذي تحدث يومها باسهاب عن معاناة "السفير" والصحافة اللبنانية الورقية جراء تراجع سوق الإعلان ومنافسة الإلكتروني من جهة، وايضا تراجع التوزيع واغلاق اسواق عربية أمام الصحيفة، تحديدا في الخليج العربي، كموقف مرتبط باستقطابات الازمات الاقليمية.
ورغم مرارة اقتراب استحقاق لحظة الرحيل لصحيفة عربية عريقة، شكلت على مدى عقود مدرسة صحفية مهنية، وقومية ملتزمة، فان حديث الاستاذ طلال سلمان كان يقطر اسى وصدمة تجاه الواقع العربي وانقساماته وحروب "داحس والغبراء" المشتعلة فيه، وحجم الانهيار الذي طال الجميع، تحديدا منذ هبوب ما سمي بالربيع العربي، وانبلاج عصر "داعش" والنصرة وموجة التطرف والارهاب الكاسحة في غير ساحة عربية.   
لن تكون "السفير" الاخيرة التي تضطر للاغلاق ورقيا، والاكتفاء بالفضاء الإلكتروني، مع ما يستتبعه ذلك من تغييرات عميقة ليس هنا مجال تفصيلها، بل ان مصير "السفير" المحزن يهدد اليوم اغلب الصحف الورقية العربية، ربما باستثناء تلك الصحف الموصولة بـ"خراطيم" الدعم والتمويل السياسي الحكومي، والتي لا تراهن في ديمومتها واستمرارها على قدراتها التوزيعية والإعلانية الحقيقية، بل على مموليها واجنداتهم السياسية!
هذا الواقع المرير للصحافة الورقية لا يستثني الصحافة الأردنية بمختلف تلاوينها وتصنيفاتها، بل قد تكون الازمة اشد هنا، فمنذ سنوات تكافح معظم الصحف للصمود في ظل تراجع سوق التوزيع مع اشتداد منافسة الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي وتقلص حصتها من سوق الإعلان التجاري من جهة، ومن جهة اخرى، تواصل ارتفاع كلف الانتاج والتشغيل لهذه الصحف، مع فرض رسوم وضرائب على الورق والاحبار وادوات الانتاج والطباعة والضرائب على الاعلانات وغيرها.
نعم، التحدي امام الصحافة الورقية والإعلام التقليدي كبير موضوعيا، لكن ثمة ما يمكن اتخاذه رسميا وحكوميا لدعم هذه الصحافة، ليس لـ"سواد عيونها" كمؤسسات ربحية وتجارية، بل لان مبدأ دستوريا يتم من خلالها وعبرها، وهو مبدأ ضمان الدولة لحق التعبير والرأي، حيث تعد الصحافة بكل اشكالها، وعلى رأسها الورقية والتقيلدية، احد اهم المنابر الرئيسية لتعبير المواطن والمجتمع عن هذا الحق الدستوري.
ان كانت الحكومة والدولة لا تستطيعان تقديم الكثير على مستوى تراجع السوق الإعلامي والتوزيعي للصحافة الورقية الأردنية، باعتبار ذلك يحتكم لعوامل السوق والوضع الاقتصادي، فان بامكان الدولة والحكومة، بل من واجبهما انفاذا للحق الدستوري للمواطن بحرية التعبير، ازالة الضرائب والرسوم، او على الاقل تخفيضها بصورة ملموسة، على الصحافة، ما يدعمها في الصمود ومواجهة باقي عوامل التراجع والازمة.
لا شك ان مواجهة التحدي الذي يواجه الصحافة الورقية والاعلام التقليدي ستبقى اساسا مسؤولية هذه الصحف والوسائل الاعلامية ذاتها، لكن ذلك لا يمنع من التأكيد على ان الدولة والحكومة يمكنهما مساعدة تلك الصحف بصورة ما في تلك المواجهة، وبالتالي فتح آفاق امامها للصمود والاستمرار.
واخيرا، فان الصحافة العربية ستخسر بخروج "السفير"، بما ينبض به ورقها وحبرها وروحها العريقة، الكثير الكثير، ولن يكون يوم 1/ 1/ 2017، الا يوما اسود لحرية التعبير وللصحافة العربية قاطبة.