في وداع طارق مصاروة

رحل الأستاذ طارق مصاروة بعد معاناة مع المرض أقعدته عن الكتابة في السنتين الأخيرتين. لكن الكاتب الكبير غادرنا وخلف ظهره سنوات لا بل عقود طويلة أمضاها في مهنة الصحافة والكتابة. قيمة الكاتب الصحفي لا تقاس بمدى اتفاقنا أو اختلافنا مع توجهاته، إنما بقيمة أفكاره وجودة كتاباته، وفي هذا الشأن فإن المصاروة كان واحدا من أبرز رواد الكتابة الصحفية المحترفة في الأردن، صاحب قلم غزير ورشيق، يختصر أكبر المواضيع وأكثرها تعقيدا بمقال موجز غني وذكي يخاطب جمهور القراء على اختلاف مستوياتهم الثقافية والمعرفية. وعندما تراجع مقالات "أبو علي" بمختلف الصحف التي كتب فيها، فلا تجد فروقا تذكر في المواقف والتوجهات. هو ذاته بمواقفه بصرف النظر عن هوية المنابر الصحفية وتوجهاتها؛ قربها أو بعدها عن السلطة. لم يكتسب المصاروة شهرته لأنه واحد من بين عدد قليل من الصحفيين والكتاب من زمن الكبار؛ فهد الفانك وإبراهيم سكجها ومحمود الكايد ومحمود الشريف وجورج حداد لهم الرحمة جميعا، ومعهم ثلة من الأحياء أطال الله في أعمارهم، بل لأنه متميز حقا، يحمل في كتاباته مزيجا من المفاهيم والرموز التي يتعلق بها الأردنيون؛ الأردن والملك حسين ووصفي التل، والعراق، والانحياز المطلق للمدرسة القومية العربية. أصبح طارق مصاروة يوما وزيرا للثقافة، لكنها محطة عابرة في حياته. كان توزير طارق أقرب ما يكون للفتة تكريم من الدولة الأردنية. قبل الوزارة وما بعدها تكمن أهمية المصاروة، يوم كان واحدا من جيل المؤسسين للإذاعة الأردنية، وصانعي الوجدان الأردني ثقافة وفنا وموسيقى، وراسمي خطاب الدولة الإعلامي في زمن كانت فيه الإذاعات ساحات المعركة لكسب الشارع العربي الملتهب. تغير الزمن كثيرا ومعه أدوات المعرفة والصراع، ومن حسن حظ مصاروه وجيله من أساتذتنا أنهم عاشوا في زمن الإعلام الرصين والمتزن، ووسائله التقليدية، ولم يخوضوا تجربة الإعلام الرقمي و"السوشل ميديا" حيث انهارت قيم الكتابة تماما، وغدت العامية، والكلام البذيء والشتائم هي التي تجعل من أشخاص مغمورين نجوما يحصدون إعجاب الملايين، بصورهم المقززة وأخبارهم الفاضحة. كان لي وزملائي في العرب اليوم تجربة قصيرة مع الأستاذ طارق، فقد كان إلى جانب الأساتذة طاهر العدوان وصالح القلاب ومحمد كعوش ومؤسس الصحيفة الدكتور رياض الحروب، على رأس فريق تولى تأسيس الصحيفة. غادر المصاروة العرب اليوم ليلة انطلاقها، لكنه قبل ذلك عمل بهمة عالية على تأهيل صحفييها الشبان لمرحلة جديدة من العمل الصحفي. كان يجمعنا في قاعة الاجتماعات الكبرى ليعلمنا أصول الكتابة الصحفية وفن كتابة العناوين ويشرح لنا عن مكانة الصور في الأخبار ودورها في جذب القراء. ساعات ممتعة كنا نقضيها طلابا في مدرسته ننهل من خبرته الطويلة ومعرفته العميقة في أصول العمل الصحفي. لم أعمل تحت قيادته في الصحافة بعد ذلك، لكني كنت من أشد المعجبين بأسلوبه في كتابة المقال. في بعض الأحيان كنت كقارئ اشتاط غضبا من رأيه في المواضيع المطروحة للنقاش العام، لكن من يستطيع ان يقاوم أسلوبه في الكتابة ولا يهجم على الصفحة الأخيرة في صحيفة الرأي ومن قبل صوت الشعب لقراءة ما يكتبه. لروحه السلام بقدر ما أحب الأردن.اضافة اعلان