قارئة الفنجان المُرّ

 قلتُ للبائع العابس في "كشك" أشرطة الكاسيت الغنائيّة، على رصيفٍ بين السيّارات البيضاء في الساحة الهاشمية: "قارئة الفنجان". ابتسَمَ، كانَ عُبوسه مُحكماً، لكنّ ابتسامة خبيثة طرأتْ على شفتيه السوداوين، وهو يستدير على الكرسيِّ المتحرِّك في المتر المربّع، ويمرُّ بعينيه المسدودتين بالنُّعاس والقذى، على نصف رفٍّ مخصَّصٍ لـ "عبد الحليم حافظ" و"فريد الأطرش". لم يعثر على الأغنية، فاقترحَ عليّ أغنيات "الهوى" الإيقاعيّة الثلاث. كرّرتُ الطلبَ، فاتسعت ابتسامة الخبث. ظنّ أنّني منتدب من شقيقتي، ولا أملكُ خيار اختيار أغنيات أخرى، أو من خالة لي نجتْ من هستيريا شاعت عند وفاة العندليب قبل ثمانية عشر عاماً. وظنُّه كانَ مبرّراً، فقد كنتُ فتى في الرابعة عشرة، لم أشرب بعد فنجان قهوة!اضافة اعلان
في جيب سترتي الجلديّة البنيّة شريط "قارئة الفنجان". تأكّدتُ أنّها صورة الغلاف، تماماً كما شاهدتُها في الحلم، يجلسُ "عبد الحليم" على كرسيِّ، مُرهقَ الملامح، بشعره الطويل المفروق، كما في هيئته الأخيرة قبل موته في ربيع لندن. ذهبَ البائعُ إلى جارٍ له، في الرصيف المقابل، وأتى بالشريط، نقدته نصفَ دينارٍ معدنيٍّ، كان قد أعادَ إحكام عبوسه، ربّما تأكّدَ أنّ الشريط لي، وأنّني بسالفٍ طويل، دقيق، قد بلغتُ سنّ القهوة المُرّة. ليس بعد، لكنّني كنتُ في حلمٍ غريبٍ قبل ليلتين أغنِّي، في شارع ماطرٍ، ونصف شمس تضيء نهاره الداكن، كنتُ منفعلاً أحرُّكُ يديَّ كما يفعلُ العندليب في تماهيه على المسرح، المقطع كان يتردّد "مسدودٌ، مسدودْ" كتوسل آخر النفق، لكني واصلتُ المشيَ حتى انتهى الشارع، وفي ناصية شارع آخر، صادفتُ نساء يستدرجنني بضحكاتهنّ، وكلما اقتربتُ للمس امرأة صارت دخاناً.
وضعتُ الشريط في المسجلة، وشاع صوت "حليم" في البيت. لم يكن صوته دائماً بين جدرانه، كان معتمداً على الحضور التلفزيوني المتباعد، فأمّي أيضاً واحدة من اللواتي نجونَ من هستيريا موته المفاجئ، ومهابة أبي منعته من أن يضع شريطاً في مسجلة، إلا لو كان حواراً مع "الرفيق الأمين العام"، وميولي، وميولُ إخوتي كانت حديثة، عند الغناء السريع في نهاية الثمانينيات. "قالت يا ولدي لا تحزن"، وكان الحزنُ هيئتي، واستدعيتُ نساء الحلم، جمعتهنّ تباعاً في أحلام يقظة متقاربة، واستبدلتُ القصرَ المرصود ببيت ريفيٍّ بعيدٍ عن رقابة الحرس والكلاب، وصلتُ حديقة الليلك، وفكَكْتُ الضفائر الغجريّة، وكلما فُقِدتُ، أعدتُ الشريطَ، وزدتُ في الحكايات امرأة، "هي الدنيا" ووصالها في مقام "النهوند".
أجلسُ على شرفة مقهى "بلاط الرشيد"، أطلبُ من النادل المرح فنجانَ قهوة، مُرّةٍ لأثبتَ أنَّني كبرتُ حلماً، يجفُّ مقلوباً على الصحن الأبيض بلا زخرفة مسلية، لوقت عبثيٍّ تتشكّلُ فيه امرأة بخطوط البنِّ، كانت الوحيدة التي لم ألمسها، في  سور حديقة الليلك، "أطلبُ يدها"، أخشى إنْ اقتربتُ أنْ تختارَ المصيرَ المجازيّ، أو إن بقيتُ على مسافة حذر، ربّما تسأمُ من طول الأغنية. هذا حلمٌ لست أتذكّر خاتمته، أعرفُ أننّي صحوتُ مزعوجاً، وأدرتُ الشريط، تكرر هذا حتى كبرتُ حلماً آخر، وصار لي نساءٌ، ولم يَصدُقْ الفنجان: "بحياتك يا ولدي امرأة عيناها سبحان المعبود".