قاع المدينة: لم تعد الملامح مثلما اعتدناها قديما

الطريق تؤدي دائما إلى قاع المدينة. ثمة تواطؤ معلوم بين الطرق المرسومة كالخطوط، وبين القيعان المتوارية خلف جبال، غالبا ما تكون قاسية.

ستختصر المسافة، وتعلن أن وجهتك هي رغدان.. ربما ستقول "مجمع رغدان القديم"، لتبدو أكثر وضوحا، ولتعلن انحيازك لمكان تشكّل فيك، ومنحك بعض لونه في رحلة العشرين عاما التي تواريت فيها بدروب العاصمة.

اضافة اعلان

غير أن المجمع القديم اكتسى بـ"حديث" جعله خارج مألوفه. الصفوف غير المنتظمة من سيارات السرفيس البيضاء غابت، وحلّت مكانها خطوط منتظمة، أما طوابير الناس فقد توارت عن الأنظار، أو غيبها عدم القدرة على تفسير الاختلاف الجديد.

تسأل عن مشهد قديم كنتَ اختبرته بنفسك لأعوام طويلة، وعن سائقين عابسين يندبون "الأزمة" والركاب غير الحاذقين الذين لا همّ لهم سوى الصعود والجلوس على المقاعد الجلدية الممزقة لسيارات بيضاء أنهكها الصعود إلى جبال عمان الكثيرة، والهبوط منها إلى قاع المدينة.. ولكنك لا تجد جوابا.

تسأل عن اكتظاظ كان يودي بك إلى حافة جنون، وإلى غضب واضح المعالم يجتاح الموجودين، ولكن الإجابات تأتي مبهمة هذه المرة "باسم التحديث والتطوير غابت وجوه مألوفة، ولم تظهر أخرى".

وتتذكر المساءات والليالي، حين يتحول المجمع إلى سوق كبيرة، فتفترش أرضه عشرات العربات التي تبيع كلَّ شيءٍ؛ بدءا من الإبرة بأحجامها المختلفة، وليس انتهاء بأجهزة الالتقاط الرقمية والكمبيوترات المستعملة.

الأصوات المتعالية من الباعة كانت تشكّل حالة خاصّة تميز المجمع عما يمكن أن يشبهه من الأماكن الأخرى، و"الترفيه غير المُسْتَقْصَى"، كان نقطة جذب لكثيرين اكتشفوا متعة الاحتماء بمكان غير مكلفٍ، ويمكن أن يكون بمثابة تجمّعٍ لرفاقٍ أنهكتهم أسعار الأماكن الأخرى.

ولكن الغياب طوى كلَّ شيء، فلا تجد اليوم سوى خطوط مستقيمة من خانات انتظار السيارات، وقليل من الركاب.. وبعض مارين صدفة بالمكان، لم ينتبهوا إلى الاختلاف الحاصل خلال أعوام قليلة فقط.

لم يعد الناس يقصدون المكان بعدما تمّ تغيير ملامح المجمع القديم، ليأتي على أنقاضه مجمع جديد خلا من كل وجوه الاستقطاب، رغم الساحات الكبيرة التي تم إفرادها لأشياء لم يكتشفها الناس حتى اليوم.

تسأل عن "عبود"؛ لماذا أقفل أبوابه واختار الصمت. تتذكر أنك كنت تناولت فيه إفطارا عاجلا ذات رمضان، وهالَكَ كثيرا كيف يستطيع العاملون تلبية جميع الطلبات في فترة زمنية محدودة!

ربما كان الأمر أكثر مما يمكن لعقلك استيعابه، فكففت عن السؤال بعد أيام قليلة، غير أن الفول الذي تناولته هناك ما يزال يمرّغ حلقك منذ سنوات طويلة، ويطالبك بإعادة المحاولة من جديد.

ولكن "عبود" لا أثر له، فقد صعد إلى حافلة النازحين الباحثين عن وجوه قصدت غرب عمان، في لهاث أبدي نحو الماء، والشوارع المصقولة، وحاويات خالية من الروائح والقطط البرية حاملة الأمراض السارية.

في محاذاة المجمع، ثمة شوارع ميتة كانت ضاجّة بالحياة ذات زمن؛ كشك القهوة الصغير في الجهة المقابلة يديره صبي صغير يتلهى بجهازه المحمول، فلا زبائن يطرقون باب قهوته، أما المحلات الأخرى فقد أغلقت أبوابها واندثرت، بعد أن تعطّلت وجهة من كانوا يزحفون نحو رغدان.

تقرر اختبار مكان آخر قريب، كان بمثابة رئة للمنطقة ذات زمن، فتقطع الشارع باتجاه الساحة الهاشمية التي كان أهل شرق عمان يبسطون فوقها فرحا عفويا غير ملتبسٍ.

يطالعك "التجديد" مرة أخرى. فالساحة تحولت إلى مجرد مساحة كبيرة فارغة من الناس ومن المحلات التي كانت تملأ إطارها نصف الدائري.

محلات التحف والعاديات والفضيات مقفلة جميعها، ما عدا واحدا يجلس أمام بابه شاب يحدّق في الفراغ.

تتشبث بمشهد احتفظت به ذاكرة قديمة، تقارنه بما أفاض به "التجديد" على المكان، فلا يسعك إلا أن تحزن: يا إلهي! أين ذهب عالم كامل من الحيوية والحركة؟

تسأل عن محترفي الحفر على الخشب، وأنت ما تزال تتذكر كيف جئت إلى المكان قبل عشرين عاما، واضطررت إلى الانتظار كثيرا كي تحفر اسمك واسم حبيبة لا تذكر الآن مكانها، على ميدالية واحدة بنسختين.

أين ذهب كل هذا اليوم؟

لا تجد جوابا لسؤال لم تطرحه خارج نفسك. فالمكان لا يشجع على طرح هذه الأسئلة، الرواد قليلون، والحضور الأكثر وضوحا، لبائعات هوى يدثرهن المكان ببعض ستر مفضوح، فيما أعينهن ترسل إشارات غير مواربة لعابري سبيل ورجال عصابات وأفّاقين ومدمنين وعمال، يمرون سهوا بالمكان، من غير أن ينتبهوا إلى حياة كاملة غابت عن مفاصله.

[email protected]