قتل الحريري.. الاحتمال الأسهل

يأتي إعلان ما سمي بجماعة "النصرة والجهاد" بأنها وراء اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ليشكل مخرجا مريحا لكثير من المحللين والمتابعين للشان لبناني، إذ أنه ينتقل بنا من حسابات معقدة متشابكة، تربط بين عملية الاغتيال البشعة وبين قرار سياسي أكبر من قدرة الحكومة اللبنانية على اتخاذه بلا غطاء إقليمي على الأقل، إلى إلقاء المسؤولية على جماعة إرهابية لا ترتبط بالحكومة اللبنانية أو بأي حكومة أخرى، وهو أسهل وأفضل الحلول لتجنب تعقيد وتأزيم الأمور في المجال السياسي والطائفي والاجتماعي، ويصب في النهاية فيما يسمى بالحرب على الإرهاب الذي تعاني منه كثير من دول المنطقة، وبالتالي ستتجنب السلطة اللبنانية الاتهامات الواضحة من قبل المعارضة السياسية المتنامية، كما ستخرج الحكومة السورية من مأزق كبير إذا ما القيت التهمة عليها.

اضافة اعلان


في المقابل فإن الإجابة عن سؤال: من قتل الحريري؟ حتى وإن أعلنت جماعة النصرة مسؤوليتها، يبقى سؤالا غامضا ومن الصعوبة بمكان الإجابة عنه، فالتحليل السياسي سيؤدي بنا إلى أطراف متضاربة واحتمالات متعددة يمكن أن تقدم الكثير من الحجج لتعزيز أي احتمال منها. لكن مسؤولية الجماعة تبقى أحد الاحتمالات، التي لا يمكن رفضها مطلقا، فالخطاب الذي قدم في الشريط المبثوث يتوافق تماما مع رؤية التيار السلفي الجهادي، والذي له وجود سري في لبنان، حتى وإن كان محدودا، لكن عملية كهذه ليست بحاجة الى عدد كبير بقدر ما هي بحاجة إلى تخطيط متين، وهو الأمر الذي لا يعوز أبناء هذا التيار، وإذا ما قبلنا جدلا بهذا الاحتمال فإنه مؤشر خطير على "العدمية القاتلة" الخطيرة التي أصبحت سمة هذا التيار في العالم، والذي باتت عملياته وخطابه تعبيرا صارخا عن حالة الإحباط والغضب واليأس، وغياب البوصلة، والتفسير الأعمى للدين ورسالته، الأمر الذي يعني أن "هذه الظاهرة" تشكل -اليوم- أهم تحد أمام الفكر الإسلامي والقوى الوطنية الإسلامية، أما قضية الربط بين الحريري وبين السعودية ووصفه بالعميل، فهي مسألة "منطقية" في ظل سذاجة الحسابات السياسية لهذا التيار وسطحية تفكيره السياسي، وهناك الكثير من الأمثلة التي تعزز هذه الفرضية، منها أحداث أيلول ذاتها.


وإذا لم نبتعد كثيرا عن هذا الاحتمال فإنه من الممكن أن هذه الجماعة فعلا هي التي أعدت لعملية الاغتيال وقامت متبرعة بتنفيذ أهداف جهة أخرى دون أن تدرك أنها مخترقة، وأنها مجرد اداة وواجهة لمصالح طرف آخر، لا يملك أن يواجه استحقاقات عملية خطيرة ومعقدة كهذه وتحمل أبعادها السياسية وتكاليفها الداخلية والإقليمية، ويعزز هذا الاحتمال كذلك الشواهد العديدة على أن جماعات وتنظيمات التيار السلفي الجهادي المرتبطة بالقاعدة مخترقة من قبل أجهزة أمنية عربية مختلفة، الأمر الذي يعني أن هذه الجماعات تحولت بدرجة كبيرة إلى "أداة" ممتازة لجهات سياسية متعددة لتنفيذ أغراضها وأهدافها دون أن تتورط هذه الجهات في استحقاقات خطيرة مباشرة.


في البداية كانت أصابع الاتهام تشير إلى سوريا، وهو احتمال يفترض درجة عالية من الغباء السياسي، لأن التداعيات حتما ليست في مصلحة النظام السوري، حتى وإن كان بريئا من دم الحريري، أو أنه قام بفبركة قصة الجماعة المزعومة كما يرى عدد من المحللين، فالنتيجة على العموم هي ازدياد الضغوط الدولية واستشراس المعارضة اللبنانية لإخراج سوريا من لبنان، الأمر الذي،في كل الحالات، يفتح بابا واسعا جديدا على دمشق، هي في غنى عنه، في هذه المرحلة الحرجة.


 أما تورط الموساد مباشرة أو غير مباشرة في الاغتيال فهو أمر ممكن أيضا وتبدو إسرائيل أكبر مستفيد من الاغتيال، والذي سيؤدي إلى تزايد الضغوط على سوريا، وخلط كل الأوراق في لبنان، الأمر الذي يبعد حزب الله تماما عن تشكيل أي خطر يهدد إسرائيل، ويغرقه من جديد في تعقيدات المعادلة اللبنانية، خاصة إذا أخذ الأمر بعدا دينيا وطائفيا، وبلغة الحسابات السياسية العقلانية فإن المستفيد الأول من الاغتيال هي إسرائيل وليس سوريا.


باعتقادي أن السؤال المهم والذي ينبغي التركيز عليه في هذا المجال من قبل القوى اللبنانية هو سؤال ما بعد الحريري، ومحاولة تدارك الأمور، التي تنذر بالفعل بشؤم سياسي واحتراب طائفي يجعل من المسألة الطائفية الخطر الأكبر الذي يهدد المجتمعات العربية في ضوء الحالة العراقية واللبنانية، وكأننا أصبحنا أمام "قوميات طائفية" تغزو من جديد المنطقة العربية، وتردها إلى حالة متخلفة من الولاءات والتفسيرات المرضية السلبية للدين ودوره ووظيفته في المجال السياسي والثقافي والاجتماعي، فهل نشهد "ردة لبنانية" مرة أخرى إلى تعبيرات أولية بدائية ومصالح جهوية وفئوية، ونكون أمام خطر "لبنان جديد" كما نحن اليوم أمام خطر "العراق الجديد" و "السودان الجديد"، أم يتجاوز لبنان بعقل وحكمة الفتنة التي بدأت تخرج من حالة السبات؟!.


إن هاجس الفتنة الأهلية المطروح اليوم في لبنان، والحال المشابهة في العراق، والصراعات العرقية والدينية في السودان، تثبت أننا لم نعرف مرحلة الدولة والاندماج القومي بعد، وأن إدارة حياتنا السياسية والثقافية مبنية على قواعد خاطئة مهددة بالانفجار بأي لحظة وبأي مكان! وهي المفتاح لأي تدخل أجنبي ولأي تفتيت للدول وطريق للهيمنة الأجنبية!.