قراءة في الانتخابات الرئاسية التونسية: كيف اكتسحها الدخلاء السياسيون

Untitled-1
Untitled-1

شاران غرينويل* – (معهد بروكينغز) 16/9/2019

توافد التونسيون إلى مراكز الاقتراع وسط هذا الشهر للتصويت في ثاني انتخابات رئاسية حرة وعادلة يجريها البلد. وكانت الانتخابات تنافسية للغاية، فلم يحظَ أي مرشح من المرشحين الكُثر البالغ عددهم 26 شخصاً بأكثر من 20 في المائة من الأصوات. وقبل إعلان النتائج الرسمية، أشارت استطلاعات آراء الناخبين التي أجرتها "سيغما كونساي" و"أمرود كونسلتينغ" إلى فوزٍ مفاجئ لدخيلَين سياسيَين، هما قيس سعيد ونبيل القروي. ورجحت أن يتنافس هذان الشخصان في جولة انتخابات ثانية.
شكل الفوز (غير الرسمي) لسعيد والقروي، وكلاهما جديد نوعاً ما على الساحة السياسية، صفعة للتحالف الحاكم، المُمثَل برئيس الوزراء يوسف الشاهد ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي ورئيس مجلس النواب عبد الفتاح مورو. بيد أن الهزيمة السياسية للمؤسسة السياسية كانت تلوح في الأفق منذ وقت طويل.
تصويت ضد النظام
كما قُلت في شباط (فبراير)، كانت الظروف في تونس مؤاتية لبروز دخلاء شعبويين. فبعد مرور ثماني سنوات على الربيع العربي، فشلت حكومات تونس المتعاقبة في تحقيق طلب الثورة الأساسي: الفرص الاقتصادية. وأصبح الوضع الاقتصادي، في جميع النواحي تقريباً، أسوأ من الوضع الذي أدى إلى ثورة العام 2011. فالبطالة التي بلغت 12-13 في المائة تقريباً قبل الثورة وصلت إلى 18 في المائة في العام 2011، وما تزال نسبتها 15 في المائة اليوم. كما تضاعف معدل التضخم إلى 7 في المائة بعدما كان من 3-4 في المائة قبل الثورة. أما معدل النمو الاقتصادي الذي حقق نسبة 5 في المائة تقريباً قبل الثورة، فبالكاد يصل إلى 2 في المائة اليوم.
ساهمت هذه الظروف الاقتصادية الصعبة في زيادة الإحباط -ليس حيال الأحزاب الحاكمة فحسب، بل حيال النظام السياسي برمته أيضاً. فقد وضع دستور العام 2014 نظاماً شبه رئاسي تتوزع بموجبه السلطة بين الرئيس ورئيس الحكومة، فكان نظاماً منقسماً أفضى إلى خمس سنوات من الحوكمة البطيئة والحلول المرتكزة على التسويات. وفي غضون ذلك، ازدادت التصورات بالفساد وتقهقَر الدعم للديمقراطية.
نوعان من الشعبوية
تمكن قيس سعيد ونبيل القروي من الاستفادة من هذا الإحباط، وإنما بطريقتَين مختلفتين كثيراً. وبحلول نيسان (أبريل) 2019، كانا كلاهما في الطليعة في الاستطلاعات التي أجريت قبل الانتخابات.
حاول قيس سعيد، البالغ من العمر 61 سنة، مخاطبة عواطف الشباب عبر إطلاق وعد بنظام جديد، والذي تكون فيه السلطة ذات طابع أقل مركزية، "حتى تصل إرادة الشعب إلى السلطة المركزية وتُنهي الفساد". ويقترح سعيد، وهو أستاذ للقانون الدستوري في جامعة تونس، إجراء إصلاحات دستورية واسعة، من ضمنها منح القدرة للتونسيين على عزل نوابهم. وادعى أن "عصر الديمقراطية البرلمانية قد ولى"، واقترح إلغاء الانتخابات البرلمانية لصالح مقاربة "من أسفل إلى أعلى"، والتي يتم فيها اختيار النواب من المجالس المحلية المنتَخبة.
من خلال هذه الإصلاحيات البنيوية، وعد سعيد بأن يعيد السلطة إلى الشعب. ويعول سعيد على الإحباط الشعبي من أن ثورة العام 2010-2011 "اختطفتها" الأحزاب السياسية الفاسدة. وفي هذا المنحى، يُعتبر سعيد شعبوياً لأنه يواجه النخبة السياسية لصالح الشعب. ولا شك في أنه يتحلى بالمصداقية اللازمة لإطلاق ادعاء كهذا، فهو لم يشغل منصباً سياسياً من قبل ولا ينتمي إلى أي حزب سياسي ولم يدلِ بصوته في أي انتخابات سابقة. وهو بالتالي دخيل سياسي بامتياز، مما يُكسبه النزاهة اللازمة لإطلاق تحد شعبوي.
بعيداً عن أجندة سعيد، تكمن جاذبية الرجل في شخصه. فقد لفت سعيد المفكر نظر الشعب خلال وضع دستور العام 2014، عندما ظهر مراراً على شاشة التلفاز لتفسير الجدالات القانونية المعقدة بلغة فصيحة رتيبة أشبه بالرجل الآلي، مما أكسبه كنية "روبوكوب" (الشرطي الآلي). وتوحي شخصيته التزهدية (يتنقل باستخدام النقل العام وتعهد بالاستمرار بالعيش في منزله عوضاً عن الانتقال إلى القصر الرئاسي) بصورة رجل نزيه لن تفسده السلطة.
في المقابل، يلجأ نبيل القروي، الذي حل ثانياً في التصويت الأخير، إلى شعبوية ذات صلة، وإنما من نوع مختلف. فالقروي، البالغ من العمر 55 سنة، هو رجل أعمال ناجح جداً في مجال الإعلام أسس قناة تلفزيونية مع سيلفيو بيرلوسكوني. ويصور القروي نفسه، على الرغم من ثروته، على أنه مدافع عن التونسيين الفقراء و"المَنسيين"، وهي سمعة اكتسبها من خلال استضافة برنامج خيري يدعى "خليل تونس" منذ العام 2017 (توقف عن استضافته في حزيران/ يونيو تماشياً مع قانون الانتخابات). ووعد القروي بإحداث "ثورة في صناديق الاقتراع" لصالح "تونس الأخرى"، أي الملايين الذين أهملتهم المؤسسة. وفي تباينٍ مع الدولة اللامركزية التي ينادي بها سعيد، يعد القروي ضمنياً بدولة قوية يمكنها استعادة النمو الاقتصادي وتأمين البضائع والخدمات للشعب.
مع أن القروي وجه جديد في الترشح للرئاسة، فإنه ليس مبتدئاً في السياسية. فقد انتهجت محطته التلفزيونية، قناة نسمة، توجهاً سياسياً للغاية في انتقاد حزب النهضة الإسلامي خلال فترة حكومة الترويكا بين العامين 2011 و2013. وبعد ذلك، أسس القروي مع الرئيس الراحل، باجي قايد السبسي، حزب نداء تونس، ويُزعم أنه استغل محطته التلفزيونية لمؤازرة ترشح السبسي في انتخابات العام 2014. وبهذا، فإنه ما يزال قادراً –حتى مع أنه يتمتع بالخبرة السياسية- على الظهور بصورة الدخيل السياسي الذي لم يحتل منصباً سياسياً من قبل.
مع بدء ازدياد الأصوات المؤيدة للقروي في استطلاعات الرأي، بدا وكأن أحزاب المؤسسة تتحد لإضعاف ترشحه. ففي حزيران (يونيو)، أقر البرلمان تعديلات على القانون الانتخابي كانت لتمنع القروي من الترشح، لكن الرئيس الراحل السبسي لم يوقعها. ومنذ تلك الآونة، تعرض القروي للاعتقال والسجن بتهمتَي التهرب الضريبي وتبييض الأموال، مما حَرمه من خوض حملته أو الظهور في المناظرات الرئاسية المتلفزة الأولى في البلاد. ومع أن التهمتين بحقه قد تكونان صحيحتَين، إذ أصدرتهما في العام 2016 مجموعة "أنا يقظ" التابعة لمنظمة الشفافية الدولية، سيس توقيتُ الاعتقال التهمتَين وسمح لحملة القروي بالاستفادة منهما. فقد وصفت الحملة القروي كأول سجين سياسي في تونس منذ اندلاع الثورة، وشبهته بنلسون مانديلا واستغلت عملية سجنه لكسب التعاطف وتعزيز فكرة أن القروي دخيلٌ جعلت منه المؤسسة ضحية.
باختصار، يمثل سعيد والقروي شكلَين يقفان على طرفَي نقيض من أشكال الشعبوية. وتَلقى طبيعةُ سعيد الفكرية وأجندته الهادفة إلى "منح السلطة للشعب" تعاطفَ الحشود الشابة الأكثر تعليماً، ولا سيما الثورويين المخذولين. وبالفعل، تشير استطلاعات رأي المقترعين التي أجرتها "سيغما كونساي" إلى أنه حقق الأداء الأفضل في صفوف المقترعين الشباب من حملة الشهادات الجامعية الذي يصوتون للمرة الأولى. وفي المقابل، يحقق القروي أداء جيداً في صفوف المصوتين السابقين لحزب نداء تونس والمصوتين الفقراء الريفيين، ولا سيما أولئك الذين استفادوا من البرنامج الخيري. وتشير استطلاعات رأي المقترعين أن القروي فاز بقرابة 41 في المائة من أصوات الناخبين الذين لم يحظَوا بتعليم رسمي و30 في المائة من أصوات الذين حصلوا على تعليم ابتدائي فحسب.
المؤسسة: خسارة معركة، وإنما ليس الحرب
فيما شكلت نتائج الانتخابات انتكاسة كبيرة للمؤسسة، فإنها تعطيها دروساً مهمة للمستقبل. كانت المؤسسة شديدة الانقسام بحلول فترة الانتخابات، مما أوجد فرصة للدخلاء لكسب كلا المركزين في الجولة الثانية من التصويت.
خاض ما لا يقل عن ستة مرشحين حملات على أساس ما يمكننا تسميته "مؤسسة علمانية"، أي المجموعة التقدمية الحداثوية المرتبطة أساساً بحزب نداء تونس التابع للرئيس الراحل السبسي. وشمل هؤلاء المرشحون رئيس الوزراء يوسف الشاهد ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي والمديرة السابقة للديوان الرئاسي سلمى اللومي الرقيق، ورئيس الوزراء السابق مهدي جمعة. وشكل دعم محسن مرزوق وسليم الرياحي للزبيدي بداية، لكنها لم تكن كافية أبداً لتوحيد هذا الصف. وكما أشار الشاهد نفسه، فإن على هذه الأحزاب أن توحد قواها إذا أرادت أن تبلي بلاء حسناً في الانتخابات النيابية المقررة في 6 تشرين الأول (أكتوبر).
لعل المفاجأة الكبرى في هذه الانتخابات كانت الأداء الرديء لحزب النهضة، الحزب الإسلامي الذي أدى دوراً في كل حكومة مُنتخَبة منذ ثورة العام 2011. وغالباً ما توقع المراقبون أن ماكينة حزب النهضة الانتخابية يمكنها أن تكسب بشكل اعتيادي 20-30 في المائة من الناخبين، بيد أن مرشح حزب النهضة عبد الفتاح مورو لم يفز سوى بنسبة 11 في المائة من الأصوات. وإذا تكرر أداء الحزب الضعيف في الانتخابات النيابية، وإذا ارتأت القيادة أن تلقي باللوم على مساوماتها الكثيرة إزاء دور الدين وأهداف الثورة، فستكون لهذه الهزيمة تداعيات ضخمة على الطريقة التي يُموضِع فيها الحزب نفسه في المستقبل.
في المستقبل
سوف تقام الجولة الثانية من التصويت بين قيس سعيد ونبيل القروي في 29 أيلول (سبتمبر) أو 6 تشرين الأول (أكتوبر) أو 13 منه، تبعاً لعدد الطعون الصادرة عن الجولة الأولى. لكن المستقبل ما يزال غامض الملامح. فما يزال القروي في السجن، وإذا تمت إدانته قبل الجولة الثانية (وهو أمر غير مرجح وإنما ممكن)، فسيحل في مكانه المرشح في المرتبة الثالث، أي عبد الفتاح مورو من حزب النهضة. وإن لم تتم الإدانة، يمكن أن ينال القروي حصانة في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية.
في حال رست المنافسة على سعيد والقروي في الجولة الثانية، ستشكل الجهة التي تدعمها الأحزاب الخاسرة مؤشراً مهماً للأداء الذي سيحققه كل مرشح. فقد يستعطف سعيد، المحافظ الاجتماعي والمؤيد للثورة نسبياً، مقترعي حزب النهضة، فيما قد يستعطف القروي، المناهض للإسلامية والعضو السابق في حزب نداء تونس، المؤسسة العلمانية. ولم يكسب كلا سعيد والقروي أكثر من 20 في المائة من الأصوات في الجولة الأولى، مما يجعل من مسألة كسب دعم الأحزاب والمرشحين الآخرين أمراً غاية في الأهمية للوصول إلى نسبة 50 في المائة.
بموجب الدستور الحالي على الأقل، ستكون الانتخابات البرلمانية في 6 تشرين الأول (أكتوبر) أهم بكثير من الانتخابات الرئاسية، لأن رئيس الوزراء، وهو الجهة الأقوى بين السلطتَين التنفيذيتين، يستمد سلطته من البرلمان. وقد بدأت الحملة مسبقاً، لكن اللافت أن قيس سعيد سيكون غائباً. فبدون حزب ينتمي إليه لن يحظى بتمثيل مباشر في البرلمان. أما "قلب تونس"، حزب القروي الذي تم تأسيسه حديثاً، فكان يتصدر الاستطلاعات التي تسبق الانتخابات النيابية. ومع عمليتَين انتخابيتين إضافيتين في الأسابيع القادمة، قد يكون زلزال تونس السياسي قد بدأ لتوه.

اضافة اعلان

*زميل زائر في مركز سياسات الشرق الأوسط في معهد بروكينغز.